ساندي الحايك
كما هي الحال على طول الشاطئ اللبناني الممتد على مسافة تتجاوز 220 كيلو متراً. يعاني القسم الصغير من الشاطئ في عكار، الممتد من منطقة العبدة وصولاً إلى بلدة العريضة على الحدود اللبنانية-السورية، من التعدّيات المقلقة، ولكن ليس من المنتجعات السياحية ومرافئ اليخوت والمصانع وخزانات الوقود، بل من سرقة الرمول والاتجار بها من دون اي مراعاة للشروط البيئية والحقوق العامّة.
هناك، وعلى امتداد 17 كيلو متراً من الشاطئ، توجد نفايات كثيرة وحيوانات نافقة. أصابع «ديناميت» تستخدم في صيد الأسماك. وتوجد ايضا جرافات نشيطة، تقوم بجرف كميات كبيرة من رمال البحر وتحميلها ونقلها وبيعها. سرقة الرمال في تلك المنطقة هي الآفة الأكثر خطورة على حياة السكان والطبيعة البيئية، كونها تساهم في القضاء على سبل الصيد التي يعتاش منها عشرات الاسر، وكونها تحصل في ظل اقتناع الفاعلين بأنها «مهنة» كسواها من المهن الحرة، التي ورثوها عن الآباء.
سوق سوداء
«أولا هي ليست سرقة»، يرد أحمد رحمون على سؤال عن شفط رمول الشاطئ وبيعها. هو كغالبية أبناء حيّ البحر في بلدة الشيخ زنات في العريضة (عكار)، يصنفون عملهم على أنه «عمل عادي».
يسكن هؤلاء في بيوت محاذية لشاطئ البحر، ولا يعرفون سبيلاً للعيش سوى «بيع رماله». يبرر أحمد، صاحب السمرة الحادة، أن رمال البحر هي «باب رزقنا». بنظره: «ما تفعله عناصر قوى الأمن الداخلي بتشديد المراقبة علينا هو قطع لأرزاقنا. لا نعرف مهنة هنا سوى تحميل الرمل وبيعه. «ما عم نأذي حدا؟ بدل ما يراقبونا يروحو يراقبو المسلحين يلي عم يشلحوا الناس مصاريها على مفرق حمص»».
يرد شقيق احمد بنبرة عالية: «هيدا شغلنا! نحنا منطلع مصاري من عرق جبينا!». يغشى الشابان من الضحك بمجرد وصف ما يفعلانه بأنه مخالف للقانون وهو اعتداء على الأملاك العامة. يجيبان: «بلا مزح. هلق كم نقلة رمل صارت اعتداء على ملك الدولة، طيب كل هل عمار ع الشط شو وضعو؟».
يعدل أحمد جلسته، ويتخذ كلامه طابعاً جدّياً: «ليكي، أنا مقتنع إنو نحنا ما عم نخالف لا قانون ولا غيرو. بس هيدي دولة ما فيها إلا على الصغار. ليش ما بيروحو بيحاسبو ز. ح. يلي عم يشفط رمل بالخراطيم الكبيرة من مصب نهر الكلب. ولا لأنو بيقرب نايب صار عندو حصانة؟».
يعرف احمد وشقيقه ان ما يقومان به من سرقة للرمول لا يُقاس بما يجري على طول الشاطئ اللبناني، فقد حصل ما يمكن وصفه انه اضخم عملية سطو منظّمة برعاية المسؤولين في الدولة، كانت نتيجتها خسارة اللبنانيين لحقوقهم العامّة على الشاطئ والبحر وتدمير البيئة دماراً غير قابل للتعويض الا بعد آلاف السنين من العمل الجاد لاعادة الامور الى طبيعتها، وبأكلاف باهظة سيتحمّلها كل المقيمين في لبنان وستفوق ما جنته مجموعة من اللصوص الكبار من ثروات رعية شخصية.
بواسطة جرافتهما الخاصة يصطحبنا الشابان نحو البحر. شق هؤلاء «اللصوص الصغار» بأيديهم طرقات فرعية عدة داخل الأراضي الزراعية ليصلوا الى البحر من مختلف الزوايا. يقول احمد ان العاملين على جرف الرمول شقوا هذه الطرقات، بعدما رفعت قوى الأمن متاريس رملية على الطرقات المعهودة لمنعهم من الوصول إلى البحر.
تمر معظم الطرقات بين البيوت المتداخلة ببعضها بعضاً بشكل عشوائي، لدرجة يمكن للمارة ملامسة شرفات بعضها. على البحر، تكثر المعاول المرمية أرضاً، وتتوضح طريقة سرقة الرمال بسهولة جراء الآثار التي يتركها هؤلاء وراءهم. ظهراً، يجمعون الرمال على حافة الطريق. يحرصون على ألا تصلها مياه البحر، حتى تنشف قليلاً من ملحها. وعندما يحل الليل «ستار العيوب»، كما يصفونه، يحضرون «البيك آب» إلى المكان، ويضعون الرمال فيه. وعند ساعات الفجر الأولى ينطلق الأخير إلى وجهته حيث ينتظرهم من يريد شراءها. أما عملية البيع فتتحكم بها السوق السوداء. لا أسعار محددة، بل لكل «نقلة» سعر. يؤكد أحمد «لما تكون رقابة درك الشواطئ خفيفة علينا، وكل العالم عم تعبي منبيع النقلة بـ300$، بس لما تكون الشغلة فيها مراقبة قاسية منبيع النقلة بين الـ500$ والـ800$ حسب الزبون إذا دفيع أو لا».
عمليات منظّمة
أحد المطلعين على حكاية هؤلاء، يروي في حديث إلى «الأخبار» أنه «في عهد الرئيس الراحل كميل شمعون، كان عدد من الخبراء البيئيين يزورون الشاطئ ويرفعون تقريراً لوزارة الطاقة والمياه (كانت الوصية حينها) يحددون فيه الفترة التي يمكن خلالها الاستفادة من فائض الرمال في البحر. وكانت الوزارة تمنح السكان تراخيص بحسب المواسم تجيز لهم سحب كميات محددة منها». إلا أن الأمر خرج عن السيطرة تماماً، حيث نشطت عمليات سرقة الرمال وبيعها بشكل عشوائي وازداد الطلب الكبير عليها، «فرمال البحر من أجود أنواع الرمول التي يمكن استخدامها في البناء». ويضيف الراوي: «بعد حين سيطرت مجموعات منظمة لديها عمال وسماسرة في مختلف المناطق الساحلية لاستغلال الريوع من عملية سحب الرمال، ما ضاعف مستوى السرقة».
في العريضة، وبحجة ضرورة تنظيف مجرى النهر الكبير الشمالي من الرمال التي تتكدس فيه وتعيق حركة المياه، ما يؤدي إلى طوفانها وتهديد حياة السكان، «امتدت الأيدي بسهولة إلى رمال البحر. منذ نحو سنتين حصلت شركة «العالم العربي» على رخصة لردم البحر في العريضة وبناء سنسول بالقرب من مجرى النهر الكبير. وعمدت هذه الشركة إلى إزالة الرمال العالقة في المكان لاستغلالها على حساب ابناء المنطقة. فهبوا «الشباب الطيبة» ومنعوا الشركة من إخراج الرمال. وبدأوا مفاوضاتهم للحصول على نسبة من الأرباح. إلى أن انتهى الأمر بحصول شخص يدعى م. خ. على رخصة لسحب الرمال من مجرى النهر، علماً أنه من المطلوبين بتهمة سرقة رمال البحر والاعتداء على عناصر قوى الأمن هناك. وأوضح الراوي «إن الشاطئ يمتد على طول 17 كيلو متراً ومن الصعب جداً ضبطه من قبل مركز مراقبة الشواطئ في قوى الأمن. لا سيما أنهم يسيّرون دورية واحدة فقط لمراقبة الشاطئ، في حين أن الذين يعملون على سرقة الرمال لديهم مخبرين يراقبون المكان الذي تسير فيه الدورية». وكشف أن «حوادث كثيرة وقعت بين سكان المنطقة على خلفية أحقية سرقة الرمال من بعض الأماكن. أخطرها بين افراد من آل رحمون وآخرين من آل دنش وقد ذهب ضحيتها قتيلان من بينهم».
مخاطر جمّة
لا يعي سكان حيّ البحر أن سحب الرمال بهذه الكثافة يهدد سلامتهم وصحة بيئة عيشهم ومصادر رزقهم. او بالاحرى، لا يأبهون لذلك طالما ان الدولة وضعتهم في سباق محموم وقاس مع تحصيل لقمة العيش وتوفير الوظائف ومصادر الدخل والخدمات العامّة. تختصر سيدة عجوز، جلست على الشاطئ تنفث دخان سيجارتها، الوعي السائد هناك، تقول جواباً على المخاطر ان «الحامي هو الله. بيع الرمل هو يلي معيشنا».
بدا كلام رئيس لجنة البيئة في نقابة المهندسين في طرابلس عامر حداد بالنسبة لهذه السيدة، كما لو انه لغة اخرى لا تفهمها او لا تعنيها، اذ كيف يمكن لاسر فقيرة تجد فرصتها في العيش من خلال جرف كمية رمال من البحر وبيعها ان يفكّر بالاضرار التي يحذر منها الخبراء. يقول حداد: «إن سحب الرمول يسبب عكرة في المياه ما يمنع دخول أشعة الشمس ويوقف عملية التمثيل الكلوروفيلي، وبالتالي يضعف الإنتاج الأولي ويؤثر في الأسماك والحيوانات التي تتغذى عن طريق تصفية المياه. كما يخلق تيارات تسحب معها جميع الكائنات في المحيط، ويؤثر سلباً في تكاثر النبات، ويعمق الشاطئ محدثاً فجوات كبيرة تؤدي حتماً إلى زحف كميات من رمال المحيط المجاور لملء الفراغات، ما يتسبب بطمر وتخريب ونقل موائل بحرية مع ساكنيها. كما يؤثر سلباً في التنوع البيولوجي. إضافة إلى تخريب موائل الحيوانات، التي لا تعيش وتتكاثر إلا على الرمال كالسلاحف البحرية، والاسماك كالسلطان ابراهيم الرملي واللقز الرملي والسلاطعين والقريدس وغيرها». بمعنى ما، يحاول حداد ان يقول ان الخطر كبير حتى على الاسر الفقيرة التي تعيش من الصيد، أما عودة الانتظام إلى البيئة البحرية في لبنان فيحتاج إلى آلاف السنين.