بروفسور جاسم عجاقة
في ظلّ الضغوطات السياسية والأمنية والإجتماعية، تواجه المالية العامة أتعس لحظاتها مع إزدياد العجز الناتج عن تلبية متطلبات أزمة النازحين السوريين كما وتلبية الملفات الاجتماعية.
وتُشير الأرقام إلى أنّ العجز في الميزانية العامة تخطى الستة آلاف مليار ليرة لبنانية، حتى إن وزير المال صرّح بأنّ العجز في موازنة العام 2014 سيتخطّى السبعة آلاف مليار ليرة لبنانية. وهذا العجز يزيد من قيمة الدين العام الذي إرتفع من 53.8 مليار دولار في العام 2004 إلى ما يزيد عن 63 مليار دولار أي بزيادة 77% في فترة عشر سنوات.
وتعود أسباب هذا العجز إلى الإنفاق المُفرط من الدولة اللبنانية التي واجهت عدداً من الإستحقاقات الأمنية، السياسية والإجتماعية منذ العام 2004. فعدوان تموز 2006، الربيع العربي، الأزمة السورية وما نتج عنها من نزوح سوري كثيف، أزمة المياومين، زيادة أجور بعض الأسلاك، الفساد والهدر… وغيرها من العوامل زادت بنسبة كبيرة العجز.
ولم يستطع النموّ الذي سجله لبنان في فترة 2007 إلى 2010 محوَ سنين من العجز المزمن حتى إنّ الميزان الأولي لم يكفِ لسدّ خدمة الدين العام ما يعني أنّ العجز أصبح يتحوّل تلقائياً إلى دين عام.
وهذا الأمر ترافق مع زيادة الموجودات المصرفية التي زادت ولكن بنسبة أقل من العجز حيث إنّ الزيادة لم تتخطَ الـ 55% على مدى السنوات العشر الماضية (مقابل زيادة الدين العام بنسبة 77% على الفترة نفسها). و65% من الدين العام اللبناني مصدره المصارف اللبنانية التي أصبحت موجوداتها تُشكل في نهاية العام 2013، 2.15 ضعف الدين العام اللبناني.
وفي مراقبةٍ للأرقام المتوفرة في العام 2014 (إلى شهر شباط فقط)، نرى أنّ هناك تحسّناً بسيطاً في الميزان الأولي ناتج عن تأليف حكومة المصلحة الوطنية وما شكله هذا الحدث من وقع على ثقة المستهلك والمستثمر في آن واحد.
لكنّ الأمور عادت إلى الأسوء مع التعطيل السياسي خصوصاً ملف إنتخاب رئيس للجمهورية والإنتخابات النيابية التي ومن الظاهر أنها لن تشهد النور وسيتمّ التمديد للمجلس كما في المرة السابقة. وهذا الأمر سيُقلل من ثقة اللاعبين الإقتصاديين بنسبة أكبر والنموّ في ظل تزايد الإنفاق العام.
كيف يصمد الاقتصاد في ظلّ هذه الظروف؟
تُعتبر أحداث عبرا وطرابلس ومعها أحداث عرسال والنزوح السوري الكثيف أكثر ضرراً على الاقتصاد من عدوان تموز 2006. فهذه الأحداث تضرب الاقتصاد بشكل بطيء وقد كلفته ما يُقارب الـ 10 مليار دولار.
أما عدوان تموز، فكان ضرره محدوداً في الوقت وتمّ تسجيل خسائر مباشرة وغير مباشرة بقيمة 8 مليارات دولار أميركي. وقد عمدت بعض الدول الغربية إلى مساعدة لبنان في ذلك الوقت، أما حالياً ومع إشتداد نشاط داعش في العراق، فإنّ معظم المساعدات تذهب إلى العراق.
وهذا الأمر يضع المالية العامة في وضعٍ حرج من ناحية أنّ الخزينة لم تعد تحمل أعباء النازحين السوريين الذين يتلقون دعماً مباشراً من الدولة اللبنانية كما ويُشاركون اللبنانيين في إستهلاك المواد المدعومة من خزينة الدولة.
وعلى رغم هذا العجز وغياب دعم الدولة للاقتصاد اللبناني بشكل مباشر عبر مشاريع إستثمارية، فإنّ الاقتصاد اللبناني هو في شبه ركود وتتوقع المنظمات الأممية نمواً له بنسبة 1% في العام 2014.
وهذا يعود لعاملين أساسيين:
1- الإستهلاك اللبناني الداخلي والذي بإعتقادنا، إرتقى إلى مراتب عالية تفوق في بعض الأحيان مراتب الدول الأوروبية (After Normalization). وهذا الإستهلاك يُشكل المحرك الأساس للعجلة الاقتصادية اللبنانية.
2- الدعم المصرفي لهذا الإستهلاك والذي وبتوجيهات حاكم مصرف لبنان للقطاع المصرفي، يسهّل حصول المستهلك اللبناني على قروض تدعم الإستهلاك ولكن للأسف لا تدعم كثيراً الإستثمار.
تحدّيات الحكومة الاقتصادية…
على رأس التحدّيات التي تُواجه حكومة المصلحة الوطنية، لجم الإنفاق الذي يتزايد بوجود عوامل عدة خارجية وداخلية تزيد من الإنفاق وتحرم الاقتصاد من أموال كانت لتُستثمر فيه:
1- هجمات داعش على المناطق اللبنانية والتي ستدفع الحكومة إلى زيادة الإنفاق العسكري ليتمكن الجيش والقوى الأمنية من دحض هذه الظاهرة.
2- زيادة عدد النازحين السوريين ويزيد معهم العجز في المالية العامة لما يُشكلونه من خطر هيكلي على الاقتصاد، وعلى المجتمع اللبناني، في ظلّ فقدان السيطرة على أماكن تواجدهم وفي ظلّ الرقابة التي من المفترض أن تؤمّنها الدولة تفادياً لأيّ خلل بالأمن.
3- الإنقسام الفكري والسياسي في المجتمع اللبناني الذي يطال الطبقة السياسية، كما الشعب على مستوى العامل والذي يؤدّي إلى شلل في مؤسسات الدولة إبتداءً من قمة الهرم نزولاً إلى مجلس النواب والحكومة وحتى الوزارات والإدارات العامة.
4- القيود السياسية الخارجية المفروضة على لبنان من دول الجوار كما من الدول الكبيرة والتي تمنع لبنان من إتخاذ إجراءات عدة تسمح للدولة في بسط سلطتها العسكرية والمالية على كل الأراضي اللبنانية.
5- تحوّل قسم كبير من الإستثمارات في لبنان إلى دول إقليمية مجاورة، كلّ هذه العوامل تضغط على الماكينة الاقتصادية اللبنانية وتدفعها إلى العمل بأقل أداءٍ ممكن. لكنّ إستمرار الوضع على ما هو عليه قد يؤدي إلى ضرب محرك الاقتصاد الوحيد المُتبقي، أي الإستهلاك، من هنا ندعو إلى مؤتمر وطني لإنقاذ الاقتصاد يتمّ من خلاله وضع خطة إقتصادية تسمح للبنان بعبور هذه المرحلة الحرجة وتكون مباركة من كل القوى السياسية والأحزاب.
الهبات السعودية والمساعدات لمواجهة النزوح السوري…
ويبقى السؤال عن مصير الهبات السعودية (3+1 مليار دولار أميركي) التي تتأخر ترجمتها على الأرض. فالسؤال المطروح لماذا هذا التأخير في تزويد الجيش اللبناني الذي هو بأمس الحاجة إلى العتاد في ظلّ هجمات داعش والمخاطر الداخلية المتمثلة بالسلاح المتفشي؟
إذ إنّ ترجمة هذه المساعدات على الأرض تُريح الخزينة العامة وتسمح بإستخدام الأموال التي ستنفق لدعم المؤسسة العسكرية على لجم العجز وتحفيز الاقتصاد. أما فيما يخصّ المساعدات العالمية لمواجهة النزوح السوري، فمن الواضح أنّ البلدان المانحة لا تلتزم بوعودها. وهذان الأمران يطرحان السؤال عن مدى شمول المشروع الغربي للمنطقة العربية.