عماد غنيم
في بلد يحتل خامس اكبر اقتصاد في العالم, وفي ظروف كتلك التي يمر بها الاقتصاد العالمي فإن عدم تحقيق نمو طوال الفترة المنقضية من العام لا يمثل حرجا كبيرا للادارة الاقتصادية حتي ولو تجاوز معدل البطالة نسبة10%, وحتي ولو ظلت الصادرات ضعيفة وكذلك الاستثمارات الاجنبية وايضا معدل الانفاق الداخلي كل هذه امور يمكن تفهمها في فرنسا لأنها ببساطة مشاكل تعاني منها معظم الاقتصادات الكبيرة في اوروبا.
لكن وزير الاقتصاد الاشتراكي واليساري ارنو مونتبور أبي عليه ضميره ان يقبل بسياسات التقشف الصارمة التي فرضتها عليه وعلي بلاده ألمانيا قائدة الاتحاد الاوروبي دعما لليورو المجهد علي حساب حياة المواطن الفرنسي المنهك من فرط الضرائب التي حملته إياها الحكومة الاشتراكية والذي يحتاج بشدة الي الوظائف بعدما بلغ معدل البطالة10.5% فقرر الانسحاب لتسقط حكومة الاشتراكيين الثانية بعد147 يوما فقط من تشكيلها. وقبل ان يغادر وجه مونتبور هجوما لاذعا للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند المنصاع تماما لرغبات الالمان ولم يفته بالطبع الهجوم علي المستشارة الالمانية انجيلا ميركل التي وصف سياسات بلادها فيما يتعلق باليورو بأنها ستؤجج مشاعر الغضب بين الاوروبيين وتؤدي في النهاية الي تحولهم للتصويت ناحية الاحزاب الشعبوية والمتطرفة.
الخلاف يدور حول عجز الموازنة وهي قضية قديمة في اوروبا منذ إنشاء منطقة اليورو قبل14 عاما حيث تصر ألمانيا التي تتحكم في البنك المركزي الاوروبي علي ضرورة الالتزام الصارم بما ورد في اتفاقية ماسترخيت ألا تزيد نسبة العجز في موازنة أي من الدول داخل منطقة اليورو علي3% صيانة لقيمة اليورو ومكانته بين العملات. والاجراء سليم من الناحية النقدية والمالية, غير انه في السنوات الاخيرة جرت مياه كثيرة في النهر الاوروبي وانفجرت الأزمة المالية العالمية التي كلفت الدول الكبري مئات المليارات للسيطرة عليها والحد من تأثيرها علي الاقتصاد والناس. وكنتيجة طبيعية لهذا الانفاق الضخم زادت مديونيات هذه الدول بنسبة كبيرة كما تجاوز العجز في الموازنات نسبة الثلاثة في المائة, واصبحت دول مثل اليونان وقبرص علي شفا الافلاس فيما تحيط المتاعب باقتصادات دول مهمة مثل ايطاليا واسبانيا اضافة الي ايرلندا والبرتغال وغيرهما. واليوم فإن غالبية دول منطقة اليورو تزيد نسبة العجز في موازناتها عن مقررات ماستريخت بنحو الضعف بل وعدة اضعاف, اما في فرنسا فإن عجز الموازنة بلغ4.3% قبل ان ينخفض حاليا بنسبة يسيرة ليصل الي4% ولكن بتكلفة اقتصادية واجتماعية مرتفعة ادت الي تآكل شعبية الرئيس الاشتراكي وحكومته حتي من بين اليساريين واعضاء حزبه انفسهم.
السيطرة علي عجز الموازنة يعني تبني سياسات تقشفية أي خفضا في الانفاق الحكومي بنسب ملموسة وكذلك زيادة الضرائب علي القادرين.. وانصاف القادرين, وهذا ما فعله الحزب الاشتراكي الحاكم. وكلنا نتذكر انه في الشهور الاولي لتولي هولاند الرئاسة في فرنسا فرض سلسلة من الضرائب علي الشركات والافراد كان اغربها فرض ضريبة بنسبة75% علي كل من يزيد دخله السنوي علي مليون يورو. كل ذلك في مقابل الا يخفض المزايا الاجتماعية في مجالات التقاعد والتعليم والرعاية الصحية بصورة مرهقة في مجتمع اعتاد علي الرفاهية الاجتماعية والتمتع بميزات عديدة توفرها الدولة للمواطنين حتي في الفترات التي تحكم فيها احزاب الوسط ويمين الوسط.
غير ان هذه السياسات كما هو متوقع اسفرت عن زيادة حدة الركود واضعاف الاقتصاد الفرنسي الذي لم يسجل نموا سوي في الربعين الاخيرين من عام2013 وبنسبة لا تكاد تذكر تدور حول0.2% فقط وهي نسبة هزيلة تؤدي حتما الي تفاقم المصاعب الاقتصادية علي الفرنسيين خاصة ناحية البطالة وضعف الدخول وصعوبة عمل الشركات المرهقة بالضرائب وسط منافسة حامية من منتجات اسيا والاوروبيين انفسهم.
مونتبور دخل وزارة مانويل فالس الاولي قبل5 اشهر ومثله مثل كثير من الاقتصاديين فهو يعتقد ان انعاش الاقتصاد مقدم علي تخفيض عجز الموازنة ولكن كل محاولاته في هذا الشأن اصطدمت برفض الالمان المشتركين مع فرنسا في فكرة الوحدة الاوروبية نفسها باهدافها المتعددة, وقد وجد الرجل نفسه واقعا بين مطرقة الالمان وسندان الركود الاقتصادي الذي يعصف بالفرنسيين, وعندما استبد به اليأس قرر الرحيل موقعا الرئيس وحكومته في مأزق كبير ادي الي استقالة الحكومة كلها واعادة تشكيلها بنفس رئيس الوزراء الاشتراكي بالطبع ولكنه استوزر مصرفيا ليبراليا هو ايمانويل ماكرو’36 عاما’ ليحل محل مونتبور في وزارة الاقتصاد. والمطلوب من الوزير الجديد ان يحقق المعادلة المستحيلة التي تقضي بزيادة معدل النمو في اطار السياسات التقشفية التي ليس من الفكاك منها سبيل.
محنة مونتبور تفتح الافاق نحو محنة اكبر تعاني منها دول كثيرة خاصة الدول العتيدة اقتصاديا وهي كيفية تحريك الاقتصاد علي نحو صحيح في ظل مؤشرات مالية مضطربة وديون ضخمة وعجز موازنات يفوق المعدلات الامنة. واذا رجعنا الي مناهج علم الاقتصاد فإن اخطار ارتفاع الديون العامة وعجز الموازنة معروفة وهي تهدد الاقتصاد بالتضخم وتآكل قيمة العملة وربما الانهيار المالي فيما لو استمر العجز لسنوات طويلة ولكن التقشف له ايضا اخطاره التي لا يمكن التنبؤ بها خاصة في ايامنا هذه وعلي رأسها انخفاض الدخول وتراجع الاستهلاك وتغول البطالة بما يستتبعه كل ذلك من مخاطر اجتماعية وتلك التي دعت مونتبور للانسحاب ورفض الاستمرار في العمل ضمن سياسات يري انها ستؤدي في النهاية الي وقوع فرنسا بين ايادي اليمين المتطرف الذي سيكون اول قراراته هو الانسحاب من منطقة اليورو وربما الاتحاد الاوروبي كله فيما لو وصل الي الحكم.
الاحوال في فرنسا صاحبة ثاني اكبر اقتصاد في اوروبا تلقي مزيدا من الضوء علي المتاعب التي تعاني منها منطقة اليورو والتي تزداد صعوبة عاما بعد عام فمشكلة اليورو انه عملة واحدة لاقتصادات20 دولة متفاوتة في الاداء الاجتماعي والانتاجي فشتان بين التزام وصرامة ومهارة المواطن الالماني اذا ما قورن بنظيره في اليونان وهذا ما يقولونه الالمان انفسهم, وشتان بين احتياجات ومستويات المعيشة في فرنسا وبولندا الخارجة منذ عقدين من وراء الستار الحديدي وهذه كلها امور يبدو انها لم تأخذ حقها من الدراسة والانتباه عندما اتخذت كل من ألمانيا وفرنسا زمام المبادرة لتنفيذ حلم الوحدة الاوروبية.. ذلك الحلم الذي راود الكثيرين طوال القرنين الماضيين ولم ينجحوا في تحقيقه.
محنة مونتبور لها ايضا وجهها العالمي فبعد سلسلة الأزمات المالية المتسارعة خلال العقدين الاخيرين اصبحت قضية تفاقم الديون العامة وعجوز الموازنات فارضة نفسها علي دول كثيرة من الولايات المتحدة الامريكية وحتي الدول الفقيرة في افريقيا. ولسوء الحظ فإن المعالجات التقليدية التي وردت في كتب الاقتصاد وعلومه التي نعرفها اصبحت غير قادرة علي تقديم حلول لهذه المشكلة الجديدة التي احتارت الدول في التعامل معها.
ماذا فيما يتعلق بمصر, من وجهة نظر مونتبور, ومع اختلاف التفاصيل, فإن معالجة الدولة المصرية الجديدة للأزمات الاقتصادية المتراكمة منذ سنوات عبر زيادة الانفاق العام وتجميع الاموال لإنشاء مشروعات ضخمة يمثل حلا معقولا لتحفيز الاقتصاد وتنشيطه دفعا لتحقيق النمو المنشود. غير ان قضية عدم التوازن المالي تظل بلا حل او انها تخضع لمعالجات غير كاملة من شأنها ان تطيل امد الأزمة.. والواضح الان ان الأزمات المالية التي تعاني منها الدول بمختلف مستوياتها تخضع لاكثر من معالجة في اطار’ التجريب’ ريثما يصل علم الاقتصاد الي صيغة او نظرية متكاملة تجيب عن السؤال الكبير.. كيف يمكن تحريك الاقتصاد والنمو في ظل توازن مالي مفقود ؟