لا ريب في أن الشلل الذي تعانيه بغداد، والاستيلاء على حقول النفط في كركوك، وصادرات النفط الجديدة من كردستان العراق، كلها عوامل أججت النقاش حول استقلال كردستان. وبينما يرى زعيم “الحزب الديمقراطي الكردستاني” الذي يتزعمه رئيس إقليم كردستان، مسعود برزاني، ضرورة إجراء استفتاء الانفصال بسرعة، فإن الحزبين الأكثر تأثيرًا في حكومة إقليم كردستان يعارضان السرعة التي ينبغي مباشرة هذا الأمر بها.
وفي هذا السياق، نشرت مجلة “ناشيونال إنترست” الأمريكية، في موقعها على الإنترنت في أغسطس 2014، مقالاً لـ “ماثيو ريد”، نائب رئيس “فورين ريبورتس”، شركة استشارية تتخذ من واشنطن العاصمة مقرًا لها، ويتركّز اهتمامها على النفط والسياسة في منطقة الشرق الأوسط، تناول فيه التوقعات حول استقلال إقليم كردستان، مؤكدًا أنه سيكون بمنزلة خطأ كبير يقع فيه قادة هذا الإقليم لأسباب سياسية، وعسكرية، واقتصادية. ورأى الكاتب أن استفتاء الانفصال الذي وعد به برزاني واقع يستحق السعي لتحقيقه، لكنه مقامرة عالية المخاطر حاليًا.
صعوبات استقلال الأكراد
يشير الكاتب إلى أن الأكراد متحمسون لاحتمالات الاستقلال، بعد أن عانوا تاريخا طويلا من التهميش والإيذاء، ولكن لا يمكن أن يكون هناك استقلال لكردستان دون عائدات ثابتة. وبيع النفط ضد إرادة بغداد الآن أمر في غاية الصعوبة. فإذا أصر الأكراد على الانفصال عن بغداد، فإن ما هو صعب الآن قد يصبح مستحيلًا غدًا، برأي الكاتب.
وأوضح ماثيو ريد أن استقلال كردستان أكثر جاذبية في الوقت الحالي، لأن بغداد تحجّم ميزانية كردستان منذ يناير 2014. ولا تقتصر نفقات كردستان الآن على دفع الأجور، والإعانات، وإنما تواجه سيلًا من اللاجئين. والأكراد بحاجة لبيع النفط لتغطية النفقات العادية، فضلًا عن رفع مستوى قوات الأمن، وبسط الحكم على مزيد من المدن، وإدارة حالات الطوارئ اليوم.
النزاع على النفط بين بغداد وأربيل
سلط ريد الضوء على النزاع القانوني بين بغداد وأربيل، عاصمة إقليم كردستان، على النفط الذي يخرج من الإقليم، والصعوبات الكبيرة التي يواجهها الأكراد في بيع أي قطرة من نفط العراق دون موافقة بغداد. فعلى الرغم من تحميل ست ناقلات تحمل أكثر من خمسة ملايين برميل من النفط الكردي بميناء جيهان التركي هذا الصيف، فإنه- حسبما يؤكد الأكراد- لم يتم بيع إلا ناقلة واحدة حتى الآن.
وهناك ناقلة تستقر قبالة سواحل المغرب منذ يونيو، وتوقفت أخرى قرب ميناء غالفستون، بولاية تكساس، في أواخر الشهر الماضي. وكانت قاضية أمريكية قد أصدرت أمرًا بمصادرة النفط إذا دخلت الناقلة المياه الأمريكية، وكانت القاضية ذاتها قد أحالت القضية إلى المحكمة العليا العراقية في جلسة 28 يوليو 2014، حيث قالت في حيثياتها: “يبدو لي أن هذه القضية ليست من اختصاص المحاكم الأمريكية لنقول فيها للحكومة العراقية مَنْ يملك، فهذا خارج نطاق اختصاصاتنا”.
ومن المرجح، برأي الكاتب، لأي محكمة أجنبية تكون طرفا في الحرب بين بغداد وأربيل أن تحيل الأمر إلى المحكمة العليا في العراق، نظرًا لأن القضية عبارة عن نزاع دستوري في المقام الأول.
ويرى ماثيو ريد أن الأكراد لديهم حجة قوية، ولكن استقلال المحكمة العليا العراقية غير مشكوك فيه، وأي حكم ستصدره المحكمة العليا ضد حكومة إقليم كردستان سيزيد من النزاع القانوني. وإعلان الاستقلال قبل صدور حكم سيضر بتوقعات المبيعات. لذا، يقول الكاتب إن الحكم القانوني ضروري لحسم النزاع، ولكن بغداد ليست مضطرة إلى الفوز بكل معركة قضائية. يمكن للحكومة المركزية مواصلة حرب الاستنزاف القانونية، مع العلم بأن عدم اليقين والتأخير جيد بما يكفي لإخافة العملاء المحتملين.
اتفاقية “خطوط النفط العراقي- التركي”
ينتقل ريد إلى عقبة أخرى، هي اتفاقية “خطوط أنابيب النفط العراقي- التركي” لربط كركوك بميناء جيهان التركي. تعود الاتفاقية إلى السبعينيات من القرن العشرين، وتم تجديدها بين بغداد وأنقرة لمدة خمسة عشر عاما في 2010. وقد توقفت الصادرات الشمالية هذا العام في مارس، بعد أن هاجم مسلحون خطوط الأنابيب المزدوجة داخل العراق.
وفي أواخر العام الماضي، ربط الأكراد خطوط أنابيبهم الخاصة بأحد تلك الخطوط، شمال تلك التي تم تخريبها في وقت لاحق، وبدأوا ضخ النفط إلى ميناء جيهان بمباركة تركيا في مايو 2014. أثار ذلك غضب بغداد التي وصفت العملية بأنها “تهريب للنفط”.
وبعد تحميل أول ناقلة نفط، رفع العراق قضية تحكيم دولية ضد تركيا في باريس. ولكن أكد كل من الأكراد والأتراك أن النفط الكردي هو في الواقع نفط عراقي، وسيتم تقسيم العائدات على أساس اتفاق يحصل بموجبه العراق على 83%، بينما تحصل حكومة إقليم كردستان على ما نسبته 17%. وسيختفي هذا الاتفاق في حال أعلن الأكراد الاستقلال، وامتلكوا خطوط الأنابيب. وإنهاء الاتفاق، حتى مع الموافقة التركية، بحسب الكاتب، لن يوفر حماية للنفط الخارج من جيهان. ويقول ريد إنه من المحتمل أن يدفع هذا النزاع بغداد إلى القيام بتعزيز جهودها في رفع دعاوى في الموانئ الأجنبية.
ضم كركوك إلى كردستان
توقع الكاتب أن يتم ضم كركوك إلى كردستان مستقلة في المستقبل، نظرًا لارتباط الأكراد التاريخي والروحي بالمدينة، ووجود البشمركة، مشيرًا إلى أن شركة “نفط الشمال” العراقية قد تولت رعاية المنطقة لعقود، وأنه سيكون من الصعوبة بمكان إبرام عقود لإحياء تلك الحقول العتيقة، والتي يصل عمر بعضها إلى ما يقرب من قرن من الزمان، إذا لم يضمن الأكراد بيع النفط، منوهًا إلى أن أي تهديد كبير من جانب المسلحين أو الجيش العراقي سيؤدي إلى وقف أعمال الشركات أيضًا.
وأكد أن هناك أهمية عاجلة لأن تطلب حكومة إقليم كردستان قرار وقف الصادرات الذي أصدرته محكمة أمريكية. فأي عملية بيع للنفط في الولايات المتحدة ستدفع الزبائن الآخرين إلى شراء النفط من الأكراد. ولكن على المدى الطويل، لن تتوقف صادرات النفط من كردستان مستقلة على قرارات المحاكم فحسب، وإنما على الاعتراف الدولي أيضًا.
وقال ريد إن البيت الأبيض، مثل تركيا، عازم على الحفاظ على وحدة العراق ككل. وفي حال أعلن الأكراد الاستقلال، على الرغم من معارضة واشنطن، فما كان يمثل حملة وراء الكواليس لمنع مبيعات النفط الكردية ربما يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك.
وشدّد الكاتب في نهاية مقاله على أن “استفتاء الانفصال الذي وعد به برزاني واقع حقيقي يستحق السعي لتحقيقه، لكنه مقامرة عالية المخاطر في الوقت الحالي. وينبغي على واشنطن، في سعيها لإنقاذ العراق، الضغط من أجل هذا الاستفتاء كجزء من صفقة كبرى تهدف لإرضاء الأقليات، فضلًا عن تحسين قانون النفط المراوغ، وهو ما سيؤدي إلى حل واحدة من أكثر المشاكل الشائكة في العراق”.