IMLebanon

العتمة تضرب البلد.. وبصائر المسؤولين الهائمين في الفراغ الكلي

Safir
عدنان الحاج

بحسبة بسيطة بين كميات الكهرباء المنتجة في الأيام الأخيرة من شهر آب 2014 (حسب إحصاءات كهرباء لبنان الرسمية وكشوفات المعامل) والكميات الموزعة في تقنين قاس، يتضح الفارق الكبير الذي يستوجب السؤال عن كميات ومصير الطاقة المنتجة، قياساً على ساعات القطع الطويلة التي تطال كل المناطق من دون تفريق كبير، وصولاً إلى بيروت العاصمة التي كانت تنعم بنفس كميات الإنتاج بحوالي 21 ساعة تدنت إلى أقل من 8 ساعات، بينما تغذية المناطق من الجبل إلى الضواحي والبقاع والجنوب والشمال تصل التغذية أحياناً إلى ساعتين وثلاث ساعات.
السؤال البديهي هو إذا كانت المعامل والبواخر تنتج حالياً (وحسب كشوفات مؤسسة الكهرباء أيضاً) حوالي 1500 ميغاوات، وحاجة الاستهلاك في أوقات الذروة كما هي الحال اليوم، بحدود 2900 ميغاوات، فهذا يعني أن المناطق كلها يجب أن تنعم بحوالي 54 في المئة أي أكثر من 16 ساعة تقريباً من دون السهو والأعطال الطارئة. فأين تذهب الطاقة المنتجة مع تغذية تدنت إلى 5 أو 4 ساعات في العديد من المناطق.

مافيات المولدات والمياه

هذا الوضع يستند الى الوقائع ومعاناة المواطنين والمناطق من دون الحديث عن عدم معرفة الأعطال نتيجة الإضراب في كهرباء لبنان، وإقفال المؤسسة أمام الإدارة، بما في ذلك من تأخير للمعاملات والفواتير التي ستتراكم على المواطن، مع دخول أعباء موسم المدارس انطلاقاً من شهر أيلول وحتى تشرين.
الجواب البديهي الأول هو أن «مافيات المولدات» وتجار الطاقة والمياه المنتشرين والذين يزدادون يومياً كالفطر يستفيدون من كهرباء الدولة تحت مظلة غياب الموظفين وإضراب المياومين والمتعاقدين مع كهرباء لبنان. علماً أن معظم هؤلاء يعرفون مفاتيح الكهرباء من خلال العديد من العاملين والمتعاونين في المؤسسة. وذلك لرفع منسوب بيع الطاقة الرسمية لحساب اشتراكات مولداتهم من دون حسيب ولا رقيب، حتى أن السؤال ممنوع في بعض المناطق، حتى شركات الخدمات المتعاونة مع قوى الأمر الواقع لم تتمكن من وضع اليد سوى على جزء بسيط من التعديات، ولم تستطع تحسين الجباية بأكثر من 10 في المئة بعد سنتين من عملها. ولا يعني ذلك أن التعديات والسرقات لم تكن تحصل في السابق، بل كانت تحصل ولو بمعدلات أقل في أكثر المناطق البعيدة عن سلطة الدولة والرقابة، لكن ليس بهذا الشكل الذي يزداد مع تفاقم ساعات القطع، وحاجة الناس إلى الكهرباء نتيجة موجة الحر وتزايد الطلب وقلة العرض، وهذا مصدر أساسي لزيادة الأعطال، إضافة إلى أعطال المحطات مثل محطة الأونسيكو التي تغذي قسماً كبيراً من بيروت، ومنع إرسال المعدات وقطع الغيار لتصليحها بفعل إضراب العمال والمياومين، ومنع إدارة الكهرباء من الدخول إلى المؤسسة.
هذا الواقع المتنامي وسط غياب الدولة والفراغ، وتسييس خلافات الكهرباء التي باتت معروفة للكبير والصغير، يرفع فاتورة المولدات على المشتركين وهي فاتورة تتعدى قيمتها السنوية بحوالي 450 مليون دولار على طاقة تقارب 500 إلى 700 ميغاوات. فالضحية هو المواطن بتحمل العبء الأعلى للخدمة الأقل من دون صوت يعكر صفو «المافيات» القائمة والمتزايدة، والمستفيدة كالمنشار على طالع زيادة الإنتاج من شبكات الدولة وعلى نازل زيادة التقنين.

تهجير الإدارة وضياع الرقابة

الجواب الثاني يتعلق بتهجير إدارة مؤسسة الكهرباء من مركزها، ما يضيع معه الحد الأدنى من الرقابة على الانتاج والتوزيع.
أما الأعطال فلم تستطع مؤسسة الكهرباء إحصاءها بدقة والسيطرة على إصلاحها ومعها شركات الخدمات بفعل تداخل المشكلة العمالية بين متعاقدي الإدارة والعاملين في شركات الخدمات منهم.
بمعنى آخر أن حساب الحقل الرسمي لمؤسسة الكهرباء ومعها وزارة الطاقة بالكميات المنتجة والتي لم تتغير عما كانت عليه منذ سنوات (مع إضافة إنتاج الباخرتين التركيتين اللتين تعطيان حوالي 285 إلى 300 ميغاوات)، لم يصل التقنين إلى هذا الحجم من العذاب على المواطنين والمشتركين البالغ عددهم حوالي مليون و300 ألف مشترك يدفعون اليوم حوالي 1800 مليار ليرة لمؤسسة الكهرباء، وأكثر من ضعفها للمولدات الخاصة من دون الحصول على تغذية 24 ساعة في اليوم.

بين الهدر والمصالح السياسية

في الحديث عن الثغرات يمكن تعداد الكثير من النقاط الفنية وغير الفنية المتراكمة والمتداخلة بين الهدر والمصالح السياسية، ومنطق الأمر الواقع وأبرز هذه المشكلات يمكن التذكير بأبرزها:
1- تجاوز نسبة العجز في القطاع الكهربائي 50 في المئة من عجز الموازنة في العامين 2013 و2014 لأول مرة في تاريخ لبنان، وهذه معضلة كارثية في حال استمرارها.
مع توقعات استمرار التزايد، وبوتيرة تصاعدية، نسبة الدين العام العائد للقطاع الكهربائي من الدين العام الإجمالي، ووصولها إلى 50 في المئة في عامي 2017 – 2018، وهذا أمر بات بحكم الواقع نتيجة الأداء القائم وغياب المعالجات.
2- استمرار عقم مجمل المعالجات على الصعيد التخطيطي، التقني، المالي، الإداري والقانوني.
3- في إطار السياسة العامة والتخطيط: وصول ورقة سياسة قطاع الكهرباء والخطة (2010-2014) إلى حائط مسدود، حيث إن 2015 على الأبواب ضمن تساؤلات عمّا حققته هذه الورقة من نتائج عملانية، العقبات والمعالجة.
4- في إطار المعالجة التقنية:
ـ إنتاجاً: ما زال أكثر من نصف إنتاج الكهرباء يعتمد على المازوت (أعلى كلفة إنتاج عالمياً) والنصف الآخر يعود إلى معامل ذات إنتاجية متدنية وأعمارها تجاوزت 30 سنة.
ـ نقلاً: ما زالت معظم الخنقات (على الشبكات) في النقل قائمة، انطلاقا من المنصورية إلى البقاع (وقد تحولت مناقصة محطات بعلبك وصور إلى حكاية إبريق الزيت قديمة متجددة).
ـ توزيعاً: اصطدام مشروع مقدمي الخدمات والشبكة الذكية مع السدود المنيعة في ترهل الإدارة، وتأخر المعاملات نتيجة المناكفات والضغوط السياسية المستفيدة من استمرار التعليق على الشبكات، وبقاء نمو هدر الطاقة لحساب المولدات الخاصة وغيرها. (لجنة إدارة المشروع مستقيلة منذ أكثر من سنة، جدولة المشروع التنفيذية مجمدة لأكثر من ستة أشهر).
5- في الإطار الاقتصادي/المالي: ما زالت رؤية الوضع المالي لقطاع الكهرباء خارج إطار تقييم الانعكاسات المالية على الوضع الاقتصادي العام. وبرغم ما أحدثته وقدمته تجربة مقدمي الخدمات، إن لم تسقطها لاحقاً مواقع الترهل أو الفساد في الإدارة، يبقى السؤال حول الكلفة، العائدات والتمويل، والسؤال الأهم حول الأموال المتراكمة في صناديق المتأخرات في ظل إهمال بل تقاعس إلى عدم تحويل هذه الفواتير إلى القضاء وعدم ممارسة كهرباء لبنان الحد الأدنى من صلاحياتها في هذا الإطار.
فما هو هذا اللغز والحلم المزعج الذي لا ينتهي ولا يبدو أنه سينتهي مع العام 2017؟
معروف أن الهدر على الشبكات في مختلف المناطق يتراوح بين الفني وغير الفني بين 46 إلى حوالي و56 في المئة، تبعاً لقوة وفعالية قوى الأمر الواقع في المناطق البعيدة المنال عن الدولة وطبعاً عن شركات الخدمات. أما كلفة الطاقة المهدورة على الشبكة إذا تمت جبايتها بشكل مضبوط، فتؤمن عائدات إضافية للكهرباء على التعرفة الحالية بحوالي 500 مليون دولار حسب تقديرات استشاريي الكهرباء. فالهدر في كلفة وسرقة التيار الكهربائي لا يبشر بإمكانية تحسين الجباية كثيرا، وقد تمكنت شركات الخدمات من تحسين الجباية حوالي 10 في المئة ضمن المناطق المتاحة على الرغم من التعاون مع قوى السياسة على الأرض في مناطق الالتزامات.

القدرة الإنتاجية للمعامل

هنا وللتذكير فقط، ملخص القدرة الإنتاجية الحالية للمعامل وفقاً لمؤسسة الكهرباء في 5 أيلول الحالي، وفي عز أزمة القطع والتقنين والشكاوى الصامتة الممتدة من أقصى الشمال إلى أبعد مناطق البقاع والجنوب والجبل:
ـ معمل دير عمار: 409 ميغاوات
ـ معمل الزهراني: 420 ميغاوات
ـ معمل الذوق: 198 ميغاوات (مجموعة واحدة تعمل من أصل خمس)
ـ الجية: 85 ميغاوات (كما الذوق مجموعة واحدة من أربع)
ـ الحريشة: 33 ميغاوات
ـ بعلبك: 30 ميغاوات
ـ البواخر التركية: 300 ميغاوات
وهكذا يكون مجمل القدرة الإنتاجية الموضوعة على الشبكة حوالي 1476 ميغاوات فيما يتجاور الطلب الـ2900 ميغاوات. مع الإشارة إلى أن توقيف معملي صور وبعلبك، وتوقيف استجرار الطاقة من سوريا، جاء لتخفيف الكلفة والتقيد بسقف الإنفاق والعجز لمؤسسة الكهرباء، والمحدد من قبل مجلس الوزراء بحوالي 3056 مليار ليرة، وحاجة الدعم هي لحوالي 3700 مليار ليرة كما كانت التقديرات للعام 2014 والعام المقبل ما لم تطرأ أعطال جديدة وتوقف أعمال التجهيز كما يحصل اليوم في المعامل الملزمة حديثاً.
العجيب في الأمر أن العتمة لا تطال منازل الناس وتغزو المناطق فقط، بل هي ضربت في الصميم عقول وبصائر المسؤولين الهائمين في الفراغ الكلي.