أطلقت الإسكوا اليوم من مقرها في ساحة رياض الصلح، بيروت، تقريرا حمل عنوان “النزاع في الجمهورية العربية السورية: تداعيات على الاقتصاد الكلي وعقبات في طريق الأهداف الإنمائية للألفية”. شارك في هذا اللقاء حشد من الدبلوماسيين العرب والأجانب ومجموعة من الخبراء والمهتمين. كما شارك ناشر جريدة السفير طلال سلمان بكلمة رئيسية.
وتحدث خلال اللقاء كل من كبير الاقتصاديين في الإسكوا رئيس إدارة التنمية الاقتصادية والعولمة الدكتور عبدالله الدردري، ورئيس قسم السياسات الاقتصادية في الإسكواالدكتور خالد أبو اسماعيل، ورئيس قسم النمذجة والتنبؤ الاقتصادي في الإسكواالدكتور هادي بشير. كما ناقش مضمون التقرير كل من الاختصاصي في الاقتصاد والتنمية الدكتور رسلان خضور، والاختصاصي في الاقتصاد والتنمية الدكتور جمعة حجازي.
الدرديري
استهل اللقاء بكلمة ترحيبية من الدردري أوضح فيها أن هذا التقرير “ليس هو التقرير الوطني السوري حول تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية والذي يصدر سنويا عن الحكومة السورية بالتعاون مع منظومة الأمم المتحدة، إنما يتطرق إلى هذا الموضوع في معرض التحليل حول تداعيات الأزمة على الاقتصاد الكلي”، وقال: “إن التقرير يتضمن بيانات ومعطيات عن واقع الاقتصاد والتنمية في سوريا حتى نهاية العام 2013، بالإضافة إلى تحليل من فريق الإسكوا بشأن التوقعات المستقبلية”.
واشار الى ان “التقرير اعتمد على بيانات المؤسسات الحكومية السورية وعلى بيانات مؤسسات ووكالات الأمم المتحدة بحسب اختصاصاتها، وعلى تحليلات ومعلومات الخبراء”.
سلمان
أما سلمان فلفت الى أن “بعض هذا التقرير مكتوب بالوجع الوطني أمام مشاهد الدمار المغسول بدماء الأشقاء السوريين وتعب أعمارهم جيلا بعد جيل”. وأشار الى أن التقرير “يقدم لوحة مفجعة لما أصاب العمران السوري بمختلف جوانبه الاقتصادية – الاجتماعية من تدمير مريع، ليس أفظع منه وأقسى إلا ما أصاب المواطن السوري، رجلا كان أو امرأة”.
وقال: “إن التقرير الممتاز والشامل الذي بين أيدينا شهادة على وحشية الحرب الأهلية التي يمكنها التهام البشر والحجر والشجر، والتي تدمر الإنسان إنسانيته فيفتك بأخيه ولا يتورع عن تخريب العمران، فيحرق آبار النفط، ويدمر المدارس والمستشفيات ورياض الأطفال والمصانع، يقطع الشجر، ينسف البيوت التي بنيت بعرق اجيال، يخرب العناوين المشعة لأقدم الحضارات في التاريخ.بلاد الخير كانت تدعى، وقلعة العروبة وقلبها النابض، ومركز توجيه السياسات، رائدة الوحدة العربية، منطلق النجدات لإخوانها في فلسطين، في جزائر الثورة، في مصر بمواجهة العدوان الثلاثي، شريكتها في الحروب ضد الاحتلال الإسرائيلي، راعية لبنان وهو يجاهد لإنهاء الحرب الأهلية التي دمرت بعض عمرانه وكادت تدمر إنسانه”.
أضاف: “ليس هذا التقرير ورقة نعي لسوريا، مع أن أرقامه وتوصيف لحجم الخراب في العمران والاقتصاد والزراعة والتعليم ومختلف وجوه الإنتاج، تقدم صورة محزنة عن واقع سوريا اليوم وتكاد تقضي على الأمل بقيامتها”.
وختم: “يبقى الأمل بأن شعب سوريا قادر، إذا ما حظي بالدعم المطلوب على أعادة إعمار بلاد الخير التي كانت بين عناوين الأمل بمستقبل عربي أفضل”.
عرض التقرير
ثم قدم بشير وأبو اسماعيل عرضا مفصلا حول التقرير، جاء فيه: “تتألف الدراسة من ثلاثة فصول تبحث في حالة الاقتصاد الكلي، وتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية، والتوقعات بشأن مستقبل التنمية في ظل استمرار النزاع.
وخلص التقرير إلى أن “العام 2013 هو الأسوأ على جميع الصعد منذ بدء النزاع، فقد شهد تدهورا مستمرا في المؤشرات التنموية، وامتداد النزاع المسلح إلى مناطق واسعة، وازدياد أعداد النازحين داخل البلد وإلى البلاد المجاورة. وتقلص النشاط الاقتصادي في جميع القطاعات والمناطق، وإغلاق أعداد كبيرة من الشركات وتسريح العاملين فيها، الأمر الذي أدى إلى تراجع المعروض من مجموعة كبيرة من السلع والخدمات في السوق، وارتفاع حاد في معدلات البطالة، وتدهور سعر الصرف الاسمي لليرة السورية مقابل العملات الأجنبية وانتشار تهريب هذه العملات والتجارة بها في السوق السوداء، مما أسفر بدوره عن ارتفاع حاد في أسعار السلع المستوردة. ولم تستفد القاعدة الإنتاجية للاقتصاد السوري من انخفاض قيمة العملة المحلية، فانخفضت الصادرات بشكل كبير، في ظل تفاقم العجز في الميزان التجاري بفعل العقوبات المفروضة على التجارة الخارجية والمعاملات المالية.
وبطبيعة الحال، اتسع العجز في الموازنة مع زيادة مخصصات الإنفاق الجاري، وتقلصت الإيرادات الضريبية وعائدات النفط، فارتفع الدين العام ارتفاعا حادا. كذلك، وتراجعت الخدمات العامة نتيجة تدمير محطات الطاقة ومضخات المياه ومحطات معالجة الصرف الصحي ووسائل ومحطات النقل والمستشفيات والمدارس وآبار وخزانات وأنابيب النفط ومشتقاته وأعداد كبيرة جدا من الأبنية السكنية.
وانخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (بالأسعار الثابتة لعام 2010) من 60 مليار دولار عام 2010 إلى 56 مليار عام 2011، ثم إلى 40 مليار دولار عام 2012، وإلى نحو 33 مليار دولار عام 2013. وتقدر الخسارة الإجمالية للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (بأسعار 2010) خلال السنوات الثلاث الماضية بنحو 70.67 مليار دولار.
وتشير البيانات الواردة في التقرير إلى دخول الاقتصاد السوري في ركود تضخمي، وارتفاع مستويات تضخم أسعار المستهلك بشكل ملحوظ خلال فترة النزاع حتى بلغت أعلى مستوى لها (89.62 في المائة) في الفترة 2012-2013. وتضخمت بشكل خاص أسعار المواد الغذائية والمشروبات، التي ارتفعت بنسبة 107.87 في المائة في الفترة نفسها. ويعود تسارع التضخم إلى انخفاض قيمة الليرة السورية مقابل العملات الأخرى في السوق السوداء، وارتفاع الأسعار نتيجة لذلك بنسبة 173 في المائة خلال الفترة 2010-2013.
ويقدر مجموع الخسائر التي تكبدها الاقتصاد السوري طوال السنوات الثلاث للنزاع (2011-2013) بنحو 139.77 مليار دولار، تكبد القطاع الخاص خسائر بقيمة 95.97 مليار دولار (68.7 في المائة) من الخسارة الاقتصادية الإجمالية، بينما بلغت خسائر القطاع العام 43.8 مليار دولار”.
وتناول الفصل الثاني من التقرير “أهداف الالفية، والتي كانت سورية قد حققت تقدما كبيرا فيها، وتم تصنيفها في آخر تقرير (2010) في المرتبة الثالثة بين الدول العربية في تحقيق اهداف الالفية، وهي الآن في المرتبة قبل الأخيرة عربيا قبل الصومال.
كانت الجمهورية العربية السورية نجحت في خفض نسبة السكان الذين يقل دخلهم عن 1.25 دولار في اليوم إلى اجمالي السكان من 7.9 في المائة إلى 0.2 في المائة في الفترة من 1997 إلى 2010. غير أن هذا المشهد تغير جذريا مع نشوب النزاع. وسرعان ما ارتفعت جميع مؤشرات الفقر وخطيه الأعلى والأدنى والفقر المدقع، لعدة عوامل منها ارتفاع معدلات البطالة نتيجة تعطل النشاط الاقتصادي في معظم القطاعات، والارتفاع الكبير في أسعار المواد كافة نتيجة لانخفاض مستويات الإنتاج المحلي للبضائع والخدمات وندرة بعضها، والحصار الاقتصادي الذي أدى إلى انخفاض كبير في حجم الواردات، وتراجع القوة الشرائية لليرة السورية، ووصل عدد السكان تحت خط الفقر الأعلى إلى 4 ملايين شخص ( 18% ).
وانخفضت نسبة الالتحاق الصافي في التعليم الأساسي من 98.4 في المائة في عام 2011 إلى 70 في المائة في عام 2013، وأثر النزاع بصورة أكبر على تعليم البنات، لا سيما في المرحلتين الثانوية والعالية.
وشهدت معدلات تحصين الأطفال ضد الأمراض تدهورا كبيرا. فبعد أن كانت نسبة التحصين بواسطة جميع أنواع اللقاحات تتراوح بين 99-100 في المائة في جميع المحافظات قبل النزاع، انخفضت هذه النسب لمعظم أنواع اللقاحات حتى أصبحت تتراوح بين 50 و70 في المائة حسب المحافظات، وشارفت على الصفر في بعض المناطق. ويستمر معدل وفيات الأمهات في الارتفاع منذ بداية النزاع في عام 2011. ومن المقدر أن يصل إلى 62.7 حالة وفاة لكل 100 ألف ولادة في عام 2013، نتيجة لضعف خدمات الصحة الإنجابية بفعل تضرر البنى التحتية والمنشآت الصحية، ونقص الأدوية بفعل توقف معظم الإنتاج المحلي واستمرار الحصار الخارجي، وانعدام الأمن على الطرق في مساحات واسعة من البلد، على امتداد الأرياف والمدن، في عدة محافظات.
وأدى النزاع إلى عودة أمراض كان السوريون قد نسوها، وإلى تفاقم أمراض كانت معدلات انتشارها منخفضة. فقد عاد شلل الأطفال ليظهر من جديد بعد غياب دام لأكثر من أربعة عشر عاما، بموازاة ارتفاع عدد المصابين بأمراض الحصبة والتيفوئيد والتهاب الكبد الفيروسي والغدة النكافية. وسجل مرض اللاشمانيا انتشارا واسعا، حيث أوقع 41 ألف إصابة في النصف الأول من عام 2013، بسبب التلوث المستشري وسوء النظافة ورداءة الصرف الصحي وانتشار القمامة في مناطق واسعة من البلد، لا سيما في محافظة حلب. وظهرت حالات جديدة من فيروس نقص المناعة البشرية، الإيدز، نتيجة ظروف أوجدها النزاع مؤاتية لذلك، مثل دخول أشخاص أجانب إلى البلد، وتردي الحالة الاقتصادية، وزيادة الضغوط النفسية.
لم يقتصر تأثير النزاع على البشر والحجر بأبعادهما ومؤشراتهما المتعددة، بل طاول الغطاء النباتي أيضا. فقد التهمت الحرائق مساحات واسعة من الغابات التي تحتوي أشجارا ورثتها الأجيال السورية منذ مئات السنين في محافظتي اللاذقية والقنيطرة. كما دفع ارتفاع أسعار وقود التدفئة وقلة توفره بشريحة واسعة من السكان إلى التحطيب الجائر الذي لم يقتصر على الغابات، بل تعداها ليطال أشجار الحدائق والأرصفة والمحميات الطبيعية. كما أوقفت معظم دول التعاون الثنائي مساعداتها وبرامجها الإنمائية، وغادرت معظم البعثات الدولية المعنية بتنسيق هذه البرامج والمساعدات، باستثناء الوكالات التابعة للأمم المتحدة، وكل ذلك تحت وطأة عقوبات اقتصادية ومالية فرضتها مجموعة كبيرة من الدول”.
وتناول الفصل الأخير من التقرير “التوقعات بشأن مستقبل الأهداف الإنمائية للألفية في الجمهورية العربية السورية في ظل استمرار النزاع، وذلك على صعيد الحوكمة والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وفرص التقدم المحتملة. ويؤكد هذا الفصل أن توقعات الخبراء بشأن الانهيارات الكبرى في الاقتصاد السوري خلال سنوات النزاع قد تحققت، والخسائر الكبرى قد وقعت. وبطبيعة الحال، انعكس ذلك على الحياة اليومية للناس. فاحتياطي المصرف المركزي من العملات الأجنبية انخفض بنسبة 67 في المائة منه خلال ثلاث سنوات فقط، من أجل تثبيت سعر صرف الليرة السورية عند حدود 150 – 160 ليرة للدولار، وبالتالي سيكون مصير الليرة السورية في عام 2015 رهنا بمجريات النزاع ومستوى الدعم الخارجي.
كذلك، انخفضت قيمة الناتج المحلي الإجمالي مجددا في عام 2013 بنسبة 16.7 في المائة، بعد أن تراجعت بنسبة 28.2 في المائة في عام 2012 حتى بلغت نصف ما كانت عليه في عام 2011. ومن المتوقع أن يستمر هذا الانخفاض، ولو بوتيرة أقل، بنسبة 14.27 في المائة في عام 2014، وأن يبلغ في عام 2015 نحو 4.68 في المائة، حتى يصل الناتج المحلي الإجمالي إلى 27.3 مليار دولار، أي ربع مستواه كما كانت المؤسسات الدولية تتوقعه للعام نفسه.
مع استمرار النزاع، يتوقع أن تترجم انعكاسات هذا التدهور الاقتصادي محنة اجتماعية على عدة مستويات: ففي عام 2015، يتوقع أن يرتفع معدل وفيات الأطفال دون الخامسة إلى 28.8 طفل لكل ألف نسمة، وأن يصل معدل وفيات الأطفال الرضع دون عمر السنة إلى 28.7 حالة لكل ألف طفل، مقابل 23.3 في عام 2013. ويتوقع أيضا أن تنخفض نسبة الأطفال المحصنين ضد الحصبة إلى 40 في المائة، وأن يرتفع معدل وفيات الأمهات إلى 73.4 حالة وفاة لكل مئة ألف ولادة. ونتيجة الظروف الراهنة، ستتراجع نسبة الولادات التي يجريها عاملون صحيون مؤهلون إلى 50 في المائة، ونسبة استخدام وسائل تنظيم الأسرة إلى 36 في المائة.
في السنوات القليلة المقبلة، يتوقع أن تتدنى نسبة الالتحاق بالتعليم الأساسي إلى 50 في المائة في الفئة العمرية 6-11 سنة، وإلى 30 في المائة في صفوف التلاميذ في الصفين الأول والنهائي من مرحلة التعليم الابتدائي، وهي نسبة متدنية إلى حد مخيف ستترك أثرها المدمر على مستقبل البلد لعقود طويلة. فالخبراء اليوم يتوقعون أن ينشأ جيل من الأطفال دون الـ15 ضحايا للأمية. وبالرغم من التوقعات بأن يبلغ الإلمام بالقراءة والكتابة في الفئة العمرية 15 ـ 24 نسبة 94.3 في المائة في المستقبل المنظور، فمن المؤكد أن هذه النسبة ستنحدر بشكل كبير خلال السنوات القادمة بسبب الانخفاض الحالي والمتوقع في نسب الالتحاق بالتعليم.
وفي عام 2015، يتوقع أن تبلغ نسبة البنات إلى البنين في مرحلة التعليم الأساسي 90.8، وأن تصل إلى 92.5 في مرحلة التعليم الثانوي، و53.6 في التعليم المهني. ويتوقع أن تنخفض نسبة البنات إلى البنين في مرحلة التعليم الجامعي لتصل إلى 76.1.
ان أخطر ما تتضمنه هذه الدراسة هو تقديرات الخبراء بشأن الفقر الذي يتوقع أن يصل خطه الأدنى في عام 2015 إلى 59.5 في المائة وخطه الأعلى إلى 89.4 في المائة. وهذا يعني أنه إذا ما استمر النزاع لغاية عام 2015، فسيكون 90 في المائة من السوريين فقراء”.
وفي محور الحوكمة اشار التقرير الى انه “لا يمكن الحديث عن الحوكمة في الجمهورية العربية السورية في ظل الظروف الراهنة. وفي ظل عدم خضوع جميع أجزاء الجمهورية العربية السورية إلى سلطة مركزية أو أقله إلى سلطة موحدة، ونظرا إلى تعطيل أو ضعف مؤسسات الدولة، وتحول الميدان إلى آلية الحوكمة الوحيدة والواقعية، تفتقر الجمهورية العربية السورية في الوقت الراهن إلى المقومات الاساسية الحوكمة. فدستور 2012 يسري نظريا على جزء من البلد فقط بفعل ظروف الحرب. وينطبق ذلك على التشريعات، بما في ذلك قوانين الانتخابات والأحزاب والإعلام. وفي هذا الواقع الصعب، لا بد من التساؤل حول ما إذا كان إنقاذ ما تبقى من الجمهورية العربية السورية والشعب السوري ممكنا، وحول ما ينبغي القيام به لتحقيق ذلك.
وردا على تلك الأسئلة، تشير الدراسة إلى أن هذا الأمر لا يزال غير مستحيل، حتى ولو كان مهمة عسيرة تزداد صعوبة يوما بعد يوم في ظل ارتفاع الكلفة المادية والبشرية والسياسية للنزاع لحظة بلحظة. وإنقاذ البلد يستدعي وضع خارطة طريق، ركيزتها الأولى تضافر جهود جميع الجهات المعنية، وهي دولية وداخلية، من أجل التوصل إلى حل سياسي تتخذ فيه جميع الأطراف خطوات شجاعة لوقف النزيف البشري والمادي، وذلك انطلاقا من إدراكها لمسؤوليتها التاريخية وحرصا على مستقبل الدولة والشعب السوريين”.