بروفسور غريتا صعب
لمَن يهمّه الشأن الاقتصادي عموماً والأوروبي خصوصاً، لا بدّ أن يتطلع الى هذه المؤشرات التي تضع أوروبا في دائرة الخطر، ويستطيع أن يلاحظ انّ ما فعله ماريو دراغي الأسبوع الماضي عقب اجتماع البنك المركزي الاوروبي لم يأتِ نتيجةَ سياسةٍ مخططٍ لها بقدر ما جاء استدراكاً لجملة أمور ومؤشرات داهمة.
مع هذا الوضع، لم يعد ينفع ربما سوى ما دعونا اليه منذ فترات طويلة والذي اتبعته أميركا وانكلترا ونجحتا الى حدّ ما في اعادة الانتعاش الى العملية الاقتصادية وإحياء الاقتصاد المتعثر.
السؤال الذي يطرح نفسه في الوقت الحاضر هو: هل أنّ دراغي استجاب لضعف بيانات التضخّم أم انه أستدرك أموراً أخطر بكثير، ولا سيما دخول أوروبا مرحلة الانكماش وسنوات متواصلة من التراجع والبطالة تهدّد معها المنطقة بأسرها، وتساهم في تمزيق الكتلة النقدية الواحدة؟ أم أن القرار جاء نتيجة سياسة التقشف المالي القاسية وعدم فعاليّتها في تحسين أمور معظم دول المنطقة، وهشاشة القطاع المصرفي الذي ما زال متعثراً غير قادر على إحياء النموّ واستعادة ثقة المستهلك؟
تكافح أوروبا اليوم لتفادي التراجع. وقد تكون خطوات المركزي الأخيرة من قطع سعر الفوائد الى أدنى مستوى وخفض سعر اعادة التمويل الرئيس من ٠،١٥٪ الى ٠،٠٥٪ محاولات اخيرة لمساعدة عمليات الإقراض.
وتحرّك المركزي الاوروبي الخميس الماضي ولو متأخراً كان جريئاً، كونه وعلى عكس ما انتظره الكثيرون، أدّى الى تراجع في الفوائد والشروع ولو نسبياً بعملية التيسير الكمّي. والغريب أن يكون الامر غير ذلك وبعد طول انتظار، ولا سيما أنّ ما بدأ منذ اكثر من اربع سنوات ما زال سائداً، إذ يترنّح اقتصاد اكبر دول المنطقة على حافة الركود كما في فرنسا.
والوضع ليس أفضل في إيطاليا وألمانيا. وسبق وذكرنا في مقالاتٍ سابقة الأسباب الكامنة وراء أوروبا وعللها ومشكلاتها المترابطة خصوصاً نقص الشجاعة لدى القادة السياسيين من أجل دفع الإصلاحات الهيكلية وتحسين القدرة التنافسية؛ لكن يبقى القول إنّ قرارات دراغي والبنك المركزي الاوروبي جاءت ليس فقط نتيجة إدراكهم أخيراً هذه الأمور إنما نتيجة ظهور مؤشرات اقتصادية لم يعد في الامكان التغاضي عنها،
ولو لم يكن الأمر كذلك لتخطّت أوروبا مرحلةَ الركود للدخول في مرحلة الانكماش مثل اليابان في العام ١٩٩٠ والتي ما زالت تكافح من اجل الخروج منها، فأوروبا على عكس اليابان ليست دولة واحدة متماسكة، وإذا ما كانت العملة الواحدة تجلب الركود والبطالة والانكماش، من الطبيعي القول إنّ صناديق الاقتراع ستصوّت اخيراً لترك اليورو او على الاقل عدم الالتزام بجميع ما يصدر عن بروكسل.
والخريف المقبل لا يوحي أبداً بالافضل وقد تعاني منطقة اليورو مشكلات إضافية مع العقوبات الغربيّة على روسيا، وتراجع التضخم بصورة خطيرة، وتراجع أسعار السندات الألمانية والتي باتت دون ١٪ ما يشير الى انخفاض الأسعار، كذلك انخفاض توقعات النموّ لهذا العام والعام المقبل للدول الثمانية عشر في هذه المنطقة وتراجع توقعاتهم على نطاق التضخّم.
ولن ندخل هنا في متاهات ما قاله دراغي عقب اجتماع المركزي الأوروبي في فرانكفورت للصحافيين عن أنّ قرار أسعار الفوائد فضلاً عن شراء الأصول جاء «بغالبية مريحة وليس بالإجماع» كذلك قوله إنّ «تفاصيل هذا البرنامج سوف يُعلن عنه لاحقاً من خلال اجتماع المركزي الاوروبي في تشرين الاول من السنة الحالية»، آملاً في أن «يلعب نظام الأوراق المالية المدعومة دوراً مهماً في تسهيل عملية الإقراض وتيسير تدفق الإئتمان على الاقتصاد».
ولكن يبقى القول إنّ انعكاساته بدأت تتردّد في أسواق القطع حيث انخفض اليورو الى ادنى مستوياته منذ العام ٢٠١١ مع تعزيز الدولار امام اهم العملات.
أما تردداتها في الاسواق العالمية فجاءت ولغايته ضعيفة في انكلترا واليابان حيث إنّ اجتماعات المصارف المركزية جاءت هادئة ولم تُسفر عن ايّ تغيير في السياسة العامة، إلّا انّ الاسواق قد تكون حريصة على معرفة ما اذا كان مصرف انكلترا متوجّهاً للتصويت على رفع اسعار الفوائد، أما بنك اليابان فيجد نفسه تحت ضغط متزايد من أجل ضخّ المزيد من السيولة اذا ما بقيت المؤشرات الاقتصادية ضعيفة في الاشهر القادمة،
لذلك ومن الطبيعي أن تبقى العيون مشدودة نحو السياسة المالية في الولايات المتحدة الاميركية ولا سيما انّ احدث البيانات تُظهر نمواً صلباً في الاقتصاد الاميركي وللربع الثالث على التوالي، كذلك هناك مفاجآت تشير الى أنّ سندات الخزانة الاميركية معرضة للبيع خصوصاً انّ الاحتياطي الفيديرالي يتوجّه نحو التحوّل في تطبيع السياسة النقدية،
اضف الى ذلك انّ الدولار قفز ١،١٪ خلال اشهر مقابل سلة من العملات بينما سندات الخزينة لـ١٠ سنوات ارتفعت ٤ نقاط بنسبة ٢،٤٥٪. هذا، وقوّة الدولار انعكست على الذهب حيث تراجع ٧ دولارات ليصل انخفاضه الى ١٢٦١ دولاراً للاونصة.
هذا آخر ما فعله دراغي والمركزي الاوروبي وحسب قوله إنهما في الحدّ الادنى من التعديلات التقنية ولن يكون من الممكن فعل شيء اضافي بعد الآن.
لذلك قد يكون برنامج الـ(ABS asset backed securities) جزء من الجهود الاوسع لتعزيز القروض خصوصاً الصغيرة منها والمتوسطة الحجم والتي تشكل العامود الفقري في اقتصاد منطقة اليورو. وقد تكون آخر الوسائل الممكن اتباعها قبل الشروع في التيسير الكمي.
هنا وجب التذكير أنّ ثمّة انظمة في الـABS كان لها دور هام في اشعال الازمة المالية العالمية والسوق الاوروبية لهذه الاصول والاوراق المالية المدعومة التي لم تتعافَ بعد، إذ إنّ التغييرات الهيكلية والتنظمية لها والتي جاءت بعد الأزمة المالية العالمية جعلت منها اقل جاذبية.
لذلك قد يكون التفسير المنطقي لهذه الخطوة الجذرية ووضع خطة لشراء السندات المدعومة جاءت بعد أن فشلت سياسة «سوف نفعل كل ما يلزم…» هذه الكلمات التي ساهمت في اقناع المستثمرين بأنّ البنك المركزي الاوروبي سوف يتخذ عند الاقتضاء التدابير النقدية العدوانية من اجل كبح جماح الازمة المالية في منطقة اليورو، كذلك وجب الاعتراف انّ منطقة اليورو والبنك المركزي الاوروبي استنفدا الوقت بالكامل ليقتنعا أنّ البطالة برقمين (2 digits) وشبح الانكماش الصريح اصبحا حقيقة لا مفرّ منها على نقيض تحسّن سوق العمل الاميركي والنموّ القوي في الصناعة الاميركية، وربما الاقتناع بانّ التدابير المتطرّفة التي اتخذها مجلس الاحتياطي الفيديرالي كانت ناجحة واعطت النتائج المرجوّة.
وبالمختصر قد تكون اميركا ومعها الاحتياطي الفيديرالي تعلّما من اليابان واستفادا ممّا حصل فيها وليس مستغرباً أن يكون المركزي الاوروبي قد أخذ درساً من اميركا وانكلترا إنما يبقى القول إنّ عملية التيسير الكمي في اميركا لم تتوقف، وإنها ما زالت سارية المفعول لغاية الآن.
ويبقى السؤال هل إنّ البنك المركزي الاوروبي مستعدٌ او بالاحرى قادرٌ على تخطّي الصعوبات والسير على الوتيرة نفسها؟ قد يحتاج الجواب لبعض الوقت ولكنّ نظرة متشائمة لوضع اوروبا وتناقضاتها توحي عكسَ ذلك