عامر ذياب التميمي
أثار قرارا المصرف المركزي الأوروبي أخيراً خفض سعر فائدة الحسم من 0.15 إلى 0.05 في المئة وشراء أوراق المال والدَّين المدعّمة بضمانات، دهشة أسواق المال والنقد. لكن مراقبين اقتصاديين كانوا يتوقعون قرارات كهذه من أهم سلطة نقدية أوروبية نظراً إلى استمرار الركود في البلدان الأوروبية. واعتبر بعضهم القرارين متأخرين بما قد لا يؤدي إلى حفز النشاط الاقتصادي. ويحاول المصرف المركزي الأوروبي ان يحفز الأعمال في مختلف القطاعات من خلال ضخ سيولة في الأسواق من خلال خفض أسعار الفوائد على التمويل.
تواجه الاقتصادات الأوروبية مشاكل مهمة منها استمرار معدل البطالة عند مستوى مرتفع (11.5 في المئة)، فيما يعزف المستهلكون عن الإنفاق المناسب في الأسواق بما دفع معدل التضخم إلى مستوى منخفض يقارب 0.3 في المئة. ولن يصل معدل النمو إلى 1.8 في المئة في ألمانيا هذا العام وواحد في المئة في فرنسا، في حين يظل سالباً في إسبانيا وإيطاليا، وبذلك يبقى المعدل العام للنمو في منطقة اليورو سالباً بعد احتساب معدل التضخم.
لكن هل يوافق قرارا المصرف المركزي الأوروبي السلطات النقدية في البلدان الأوروبية الرئيسة؟ في أوساط المصرف المركزي الألماني تحفظات مهمة على القرارين إذ تتخوف من تزايد السيولة في الأسواق بما يدفع إلى تضخم أعلى من المطلوب. ويرى الألمان أن السيولة زادت بما عزز اقتناء المساكن في أجزاء من ألمانيا. بيد ان الألمان يتوجسون من زيادة السيولة كما حصل في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
وفي ضوء العوامل الاقتصادية في أوروبا يبقى قرارا المصرف المركزي الأوروبي في الاتجاه الصحيح على رغم تأخرهما. أما اقتناء الأصول فهو محاولة للاستفادة من تجربة مجلس الاحتياط الفيديرالي الأميركي عندما اعتمد برنامج «التسهيل الكمي» لشراء أصول مالية وسندات. لكن الأوضاع في أوروبا قد تختلف، ولا بد من البحث عن أوراق دين مناسبة لشرائها من أجل تأمين السيولة النقدية في الأسواق.
ويحاول المصرف المركزي الأوروبي ان يستخدم كل الأدوات المتاحة لديه لتعجيل عمليات التعافي في اقتصاد القارة. ويلاحَظ ان سعر صرف اليورو تراجع بعد إعلان القرارين ليصل إلى 1.29 دولار لليورو، لكن ذلك قد يكون مفيداً إذ يجعل أسعار السلع والبضائع الأوروبية المصدرة إلى خارج منطقة اليورو أكثر جاذبية.
وقابل المستثمرون قراري المصرف المركزي الأوروبي بارتياح فتفاعلت أسواق المال وانتعشت إلى حد ما، إذ ارتفع مؤشر «يوروستوكس 600» بنسبة 1.1 في المئة مباشرة بعد إعلان القرارين، فيما انتعشت 16 من الأسواق الـ 18 في أوروبا الغربية. وربما يراهن المستثمرون والمتعاملون في أسواق المال على تحسن بيئة الأعمال، وتوسع النشاطات، وتحقيق عائدات أكبر بفعل تسهيلات المصرف المركزي الأوروبي من خلال أدوات السياسة النقدية.
وهذه احتمالات يجب ان تواكبها تطورات في الإنفاق الاستهلاكي وتعزز الثقة في الأوضاع الاقتصادية بين الناس. ولا بد من أن يدفع القراران الأوضاع إلى تحسن ما مهما كانت درجته، وربما تساعد عملية الانتعاش الاقتصادي في الولايات المتحدة في ارتفاع الطلب على المنتجات الأوروبية بما يعوض عن سوق روسيا التي أوقفت استيراد المواد الغذائية من الاتحاد الأوروبي. والبلدان الأوروبية إذ تصدّر العديد من السلع والمعدات الصناعية والمواد الغذائية إلى العديد من بلدان العالم وتستورد مواد أساسية مثل النفط والغاز، توظف الأدوات النقدية لحفز التصدير والسيطرة على الاستيراد لدعم الميزان التجاري وميزان المدفوعات. وقد تكون التجارة البينية داخل بلدان الاتحاد الأوروبي طاغية لكن العلاقات التجارية مع بقية بلدان العالم تبقى مهمة وتتطلب الحفز والدعم.
يُذكر ان إجمالي قيمة الصادرات من بلدان الاتحاد الأوروبي بلغ 1.74 تريليون يورو عام 2013 في حين بلغت قيمة الواردات 1.68 تريليون. وتمثل الصادرات الألمانية 27 في المئة من إجمالي الصادرات الأوروبية إلى الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي و19 في المئة من الواردات. والاقتصادات الأوروبية هي في شكل عام اقتصادات تعتمد على التجارة الخارجية وأسواق التصدير بدرجة مهمة. ويبدو ان المنافسة في التجارة الدولية تظل أساسية للاقتصادات الأوروبية على رغم اشتداد تلك المنافسة وتراجع الميزات النسبية للعديد من تلك الاقتصادات.
ما زالت التحديات التي تواجه أوروبا مهمة وتأتي محاولات السلطات النقدية في إطار حفز مختلف النشاطات الاقتصادية خصوصاً قطاع الصناعات التحويلية وقطاع الخدمات. ويأمل صناع القرار بأن يعيد القراران الأخيران الثقة إلى المستهلكين بما يعزز الإنفاق الاستهلاكي. وربما يتطلب الحفز قرارات أكثر شمولاً تتجاوز أدوات السياسة النقدية فالبلدان الأوروبية تعاني تحولات ديموغرافية مهمة قد تفسر كثيراً من السمات الاقتصادية الراهنة. وغني عن البيان أن المصرف المركزي الأوروبي اتخذ قراريه بحكم المسؤوليات المهمة المنوطة به والتي تستدعي العمل من خلال كل الآليات لتنشيط الحياة الاقتصادية التي تعاني ركوداً دام سنوات.