في السنة الرابعة للحرب السورية واستمرار النزاع المسلح، يزداد واقع الاقتصاد السوري على جميع المستويات تأزماً متصاعداً، يضرب عمل ثلاثة عقود من التنمية ومشروعاً مستداماً كان من المفترض أن ينتهي بنجاح مع بداية العام 2015.
الصورة القاتمة للآفاق الاقتصادية في سوريا، قدمتها أمس، «اللجنة الاقتصادية الاجتماعية لغرب آسيا» التابعة للأمم المتحدة (إسكوا)، خلال مؤتمر صحافي عقد في مقرها في بيروت، حيث أعدت تقريراً لفريق من الخبراء، بإشراف نائب رئيس مجلس الوزراء السوري السابق للشؤون الاقتصادية عبد الله الدردري، حول توقعات المستقبل في ظل استمرار النزاع في سوريا، والأثر الاقتصادي لهذا النزاع وتكلفته، وأثره على تحقيق الأهداف الانمائية للألفية في سوريا، في ظل خسائر كلية بلغت حتى الآن ما يقارب 170 مليار دولار.
واستهل الاجتماع بكلمة شاملة للدردري، كبير الاقتصاديين في الإسكوا رئيس إدارة التنمية الاقتصادية والعولمة، ثم كلمة تعقيبية للزميل طلال سلمان رئيس تحرير جريدة «السفير».
وتبع ذلك تقديم التقرير من رئيس قسم السياسات الاقتصادية في «الإسكوا» خالد أبو اسماعيل، ورئيس قسم النمذجة والتنبؤ الاقتصادي الدكتور هادي بشير. كما ناقش مضمون التقرير الاختصاصيان في الاقتصاد والتنمية الدكتور رسلان خضّور، والدكتور جمعة حجازي.
وفي هذا السياق، قال الدردري إن «التقرير اعتمد على بيانات المؤسسات الحكومية السورية وعلى بيانات مؤسسات ووكالات الأمم المتحدة بحسب اختصاصاتها، وعلى تحليلات ومعلومات الخبراء».
من جهة ثانية، نوه سلمان بداية بالجهد المميز الذي بذله الفريق المعد للتقرير، الذي اعتبره «موجعاً في توصيفه للكارثة الوطنية التي ضربت سوريا فأضاعت دورها في الحاضر، وكان في غاية الحيوية عربياً، وهددت مستقبلها، وكان واعداً».
وأضاف أن «بعض هذا التقرير مكتوب بالوجع الوطني أمام مشاهد الدمار المغسول بدماء الأشقاء السوريين وتعب أعمارهم جيلاً بعد جيل، وهم الرواد الأوائل للحضارة الإنسانية عبر التاريخ وبناة أعرق المدن التي لا تزال شاهدة على طليعيتهم، ثقافة وعمراناً وسبقاً في ميادين العلم والتقدم»، لافتاً في الوقت نفسه إلى أن «المضمون الكلي لهذا التقرير… يقدم لوحة مفجعة لما أصاب العمران السوري بمختلف جوانبه الاقتصادية ـ الاجتماعية من تدمير مريع، ليس أفظع منه وأقسى إلا ما أصاب المواطن السوري».
واعتبر رئيس تحرير «السفير أن «هذا التقرير ليس ورقة نعي لسوريا، مع أن أرقامه وتوصيفه لحجم الخراب في العمران والاقتصاد والزراعة والتعليم ومختلف وجوه الإنتاج، تقدم صورة محزنة عن واقع سوريا اليوم وتكاد تقضي على الأمل بقيامتها».
وختم قائلاً إن «الأمل يبقى بأن شعب سوريا قادر، إذا ما حظي بالدعم المطلوب على اعادة إعمار بلاد الخير التي كانت بين عناوين الأمل بمستقبل عربي أفضل».
وأعقب ذلك حوار مفتوح شارك فيه خبراء في الاقتصاد واستشاريون في التنمية ومعدّو التقرير من فريق عمل «الأجندة الوطنية لمستقبل سوريا» وباحثون وخبراء في «الإسكوا» بالاضافة الى الإعلاميين المشاركين.
وبدأ عرض تقرير «الإسكوا» الذي أشار في بدايته إلى أن «السوري الذي لم يخسر حياته في هذا النزاع، خسر عشرين عاماً منها، فإمّا دمر البيت الذي أنفق حياته في بنائه، أو ضاع العمل الذي أسسه، أو تفككت علاقاته وتشتت، أو صارت خبرته ومسيرته المهنية بلا قيمة».
ولفت التقرير إلى أن «الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (بالأسعار الثابتة لعام 2010) انخفض من 60 مليار دولار في العام 2010، إلى 56 مليار دولار في العام 2011، ثم إلى 40 مليار دولار في العام 2012، وإلى نحو 33 ملياراً في العام 2013».
وأضاف أن «الاقتصاد السوري تقلص في العام 2013 بنسبة 16.7 في المئة مقارنة بالعام 2012، وبنسبة 28.2 في المئة مقارنة بالعام 2011».
وقدّر التقرير الخسارة الإجمالية للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (بأسعار 2010) خلال السنوات الثلاث الماضية بنحو 70.67 مليار دولار.
وأشار التقرير إلى أن الاستثمار الخاص تراجع بشكل كبير في العام 2013، حيث تسبب النزاع السوري بهجرة القسم الأكبر من رأس المال السوري الخاص خارج البلد، لا سيما إلى البلدان المجاورة، وتدمير قسم كبير منه، والحد من نمو ما بقي منه.
وأوضح التقرير أن «آلاف الشركات في مناطق النزاع خصوصاً، إما انتقلت إلى بلدان أخرى، وإما تدمرت جزئياً أو كلياً، فتدهورت انتاجيتها حتى بلغت مستويات متدنية جداً»، لافتاً إلى أن «سبب ذلك هو أن معظم هذه المنشآت كانت تنتشر في المدن الريفية والطرفية، أي التي تشكل المسرح الرئيسي للنزاع المسلح».
وأشار التقرير أيضاً، إلى تراجع صادرات معظم السلع الأساسية نتيجة الانقطاع المتكرر لإمدادات النفط، بعد تدمير حقول الانتاج ومرافق التقرير، وإضعاف قطاع النقل والمواصلات، وتراجع الانتاج في المدن والمناطق الصناعية، نتيجة أعمال العنف، فضلاً عن هروب العمال خارج مناطق النزاع، لا سيما في حلب وريف دمشق وحمص.
ويقدر التقرير مجموع الخسائر التي تكبدها الاقتصاد السوري طوال السنوات الثلاث للنزاع (2011-2013) بنحو 139.77 مليار دولار، منها 69.1 مليار دولار (49.4 في المئة) هي قيمة الخسائر في المعروض النقدي. أما نسبة الـ50.6 في المئة المتبقية، وقدرها 70.67 مليار دولار، فمردّها إلى التراجع الحاد في الناتج المحلي الإجمالي والفرق الشاسع بين مستوياته المتوقعة والفعلية.
وعلى مستوى التوزيع القطاعي للخسائر، تكبّد القطاع الخاص خسائر بقيمة 95.97 مليار دولار (68.7 في المئة) من الخسائر الاقتصادية الاجمالية، بينما بلغت خسائر القطاع العام 43.8 مليار دولار (31.3 في المئة).
وتقدر الحكومة السورية الخسائر في المعروض النقدي في مؤسساتها العامة بنحو 814.8 مليار ليرة سورية، أي 17.7 مليار دولار حتى نهاية سنة 2013.
ومع استمرار الصراع في سوريا، يتوقع التقرير أن تترجم انعكاسات التدهور الاقتصادي محنة اجتماعية على مستويات عدّة.
وفي مجال الصحة، أشار التقرير إلى أنه «في العام 2015، يتوقع أن يرتفع معدل وفيات الاطفال دون الخامسة إلى 28.8 طفل لكل ألف نسمة، وأن يصل معدل وفيات الأطفال الرضع دون عمر السنة إلى 28.7 حالة لكل ألف طفل، في مقابل 23.3 في العام 2013»، فيما يتوقع أن «تنخفض نسبة الاطفال المحصنين ضد الحصبة إلى 40 في المئة، وأن يرتفع معدل وفيات الأمهات إلى 73.4 حالة وفاة لكل ألف ولادة».
وفي مجال التعليـم، يتوقـع التـقرير أن «تتـدنى نسبة الالتحاق بالتعلـيم الأسـاسي إلى 50 في المئة مـن الفئـة العـمرية 11-6 سنـة، وإلى 30 في المئة في صفوف التلامـيذ في الصفين الأول والنهائي من مرحلـة التعلـيم الابتدائـي، وهـي نسـبة متدنيـة إلى حـد مخيف ستترك أثرها المدمر على مستقبل البلد لعقود طويلة».
ويشير التقرير إلى أن «الخبراء يتوقعون أن ينشأ جيل من الأطفال دون الـ15 ضحايا للأمية». ويضيف أنه «بالرغم من التوقعات بأن يبلغ الإلمام بالقراءة والكتابة في الفئة العمرية 15-24 نسبة 94.3 في المئة في المستقبل المنظور، فمن المؤكد أن هذه النسبة ستنحدر بشكل كبير خلال السنوات المقبلة بسبب الإنخفاض الحالي والمتوقع في نسب الالتحاق بالتعليم».
وفي العام 2015، يتوقع أن تبلغ نسبة البنات إلى البنين في مرحلة التعليم الأساسي 90.8، وأن تصل إلى 92.5 في مرحلة التعليم الثانوي، و53.6 في التعليم المهني. ويتوقع ان تنخفض نسبة البنات إلى البنين في مرحلة التعليم الجامعي لتصل إلى 76.1.
وفي ما يتعلق بالفقر، لفت التقرير إلى أن «أخطر ما تتضمنه هذه الدراسة هو تقديرات الخبراء بشأن الفقر الذي يتوقع أن يصل خطه الأدنى في العام 2015 إلى 59.5 في المئة، وخطه الأعلى الى 89.4 في المئة، وهذا يعني انه اذا استمر النزاع لغاية العام 2015، فسيكون 90 في المئة من السوريين فقراء، وسيعجز 60 في المئة منهم عن تأمين حاجاتهم الغذائية».
وعن تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية، أشار التقرير إلى أن سوريا قبل اندلاع النزاع في العام 2011، تقدمت بخطوات واثقة باتجاه أهداف الالفية، وكان بوسعها تحقيق انجازات مهمة في هذا المجال بحلول العام 2015 فيما لو تمكنت من الاستمرار في مسيرتها الانمائية التي بدأت قبل نشوب الحرب، لكن مسار الأحداث أوقف هذه المسيرة، بل نسفها وجعل إمكانية بلوغ الأهداف الانمائية للألفية في الموعد المحدد أمراً مستحيلاً.
ويشير التقرير إلى أن احتياطي المصرف المركزي السوري من العملات الاجنبية انخفض من 14.4 مليار دولار في العام 2011، إلى 3.5 مليارات دولار في نهاية العام 2013، أي أنه تم استهلاك 67 في المئة منه خلال ثلاث سنوات فقط من أجل تثبيت سعر صرف الليرة السورية عند حدود 150-160 ليرة للدولار، وبالتالي، سيكون مصير الليرة السورية في العام 2015 رهناً بمجريات النزاع ومستوى الدعم الخارجي.