عندما قرّرت السلطات النقدية في لبنان أن تشجّع المصارف على التوسّع إلى الخارج، كانت ضرورات التمويل السيادية تحتلّ أولوية أهدافها. ففي ذلك الوقت، أي منذ أكثر من عشر سنوات، وَجَبَ إيجاد قنوات تتيح استمرار التدفقات النقدية لتوسيع قاعدة ودائع المصارف حتى تتمكن هذه الأخيرة من تسليف الدولة. والتصقت صفة «الانتشار المصرفي» بهذه العملية تماهياً مع حقائق هجرة اليد العاملة اللبنانية التي لا توصيف اقتصادياً لها سوى أن لبنان يصدّر عمالة تحوّل إليه جزءاً من مداخيلها بالعملة الخضراء، أي الدولارات.
هكذا انطلقت المصارف إلى أكثر من 30 بلداً تحت ستار تأمين «قنوات استقطاب» نقدية أكثر فعالية، وأُشيع على هامش ذلك بعض قصص النجاح في العمل المصرفي.
قبل نحو عشر سنوات، أي في عام 2004، كان عدد الدول التي توجد فيها فروع لمصارف لبنانية، ثماني فقط. أما اليوم، فقد ارتفع العدد إلى 30 دولة. في تلك الفترة، كان توسّع المصارف إلى الخارج محكوماً بعوامل مختلفة، شكلاً ومضموناً. فعلى سبيل المثال، جذبت قبرص أكبر عدد من المصارف اللبنانية في فترة ما بين الحرب الأهلية ومطلع الألفية الثانية بسبب اضطرار المصارف إلى البحث عن أقرب نقطة جغرافية تتيح لها إنجاز عملياتها المصرفية لمصلحة الزبائن بين لبنان والخارج. وخلال السنوات اللاحقة، تكرّس وضع قبرص في هذا المجال، وسجّل في عام 2004 ارتفاع عدد المصارف اللبنانية هناك إلى ثمانية. ورغم أن الدعوات التي انطلقت بين نهاية التسعينيات ومطلع الألفية لزيادة مستوى الانتشار المصرفي واستقطاب الودائع، إلا أن المصارف لم تكن تتجاوب كثيراً مع هذا الأمر بسبب عدم جاهزيتها أو امتلاكها القدرة التنافسية في مواجهة عمالقة كبار. وحتى تلك الفترة، لم تكن المصارف قد اكتشفت السودان، والسنغال وسوريا وتركيا وشاطئ العاج وبيلاروسيا والعراق والبحرين وأرمينيا والجزائر ورومانيا والسعودية وقطر وعمان…
أما الدول التي كان فيها وجود «خفيف»، فهي بلجيكا ومصر وفرنسا والأردن وسويسرا والإمارات العربية المتحدة وبريطانيا.
لم يكن قد مرّ أكثر من خمس سنوات حتى ارتفع عدد الفروع المصرفية الخارجية من 19 فرعاً في ثماني دول في عام 2004 إلى 60 فرعاً في 22 دولة في عام 2009، ثم ارتفع العدد في نهاية عام 2013 إلى الشبكة الآتية: 16 مصرفاً لبنانياً موجوداً في 30 بلداً ولديهم 18 مكتباً تمثيلياً، و50 فرعاً مباشراً، و35 مصرفاً تابعاً، ومصرفان شقيقان ومصرف شريك. وبذلك أصبحت شبكة الفروع المصرفية الخارجية للمصارف الـ16، باستثناء المكاتب التمثيلية، شبكة هائلة ينضوي فيها أكثر من 350 فرعاً مصرفياً.
وفي ذلك الوقت، أي الفترة الممتدة بين 2004 و2009، طرأت أحداث مهمة في لبنان عزّزت فكرة الخروج من الوعاء اللبناني والانتشار خارجه لاستقطاب الودائع التي كان يحتاجها لبنان لتمويل ديونه وتعزيز احتياطات مصرف لبنان بالدولار، ولا سيما أن قسماً منها كان قد استنفد في الفترة التي تلت اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، ثم في أيام حرب تموز وفي فترة الانقسام الداخلي العمودي الذي استمرّ لفترة 18 شهراً. وعلى الجانب النقدي ــ المالي، عمل مصرف لبنان على إبقاء هامش الفوائد اللبنانية مرتفعاً بنقطتين أو أكثر قليلاً، مقارنة مع الفوائد العالمية، فيما حدّد نسب الاستثمار في المشتقات المالية بما يجعل الجزء الأكبر من الأموال التي تستقطبها المصارف تصبّ في تمويل الدين العام.
إذاً، جاءت نتائج الانتشار لتصبّ في الأهداف والأولويات النقدية. فقد زادت ودائع المصارف بين 2004 و2008 بقيمة 33 مليار دولار، لترتفع من 49 مليار دولار إلى 82 ملياراً، ثم بدأت السلطات النقدية تفاخر بأن لبنان لم يسقط في «فخّ» المشتقات المالية. وبعد نحو سنة، وتحديداً في أيار 2009، قال حاكم مصرف لبنان في اللقاء الشهري مع المصارف، إن المصارف اللبنانية استقطبت نحو 15 مليار دولار في 12 شهراً.
هذا الوضع كلّه أثار أسئلة عديدة لدى المصرفيين المحليين؟ إذا كانت المصارف تحقق كل هذه الأرباح (1.7 مليار دولار في عام 2013)، فهل هي تحققها من انتشارها في مصر والأردن وسوريا وتركيا، أم من أوروبا وأوستراليا…؟
الإجابة عن هذا السؤال تتطلب الفصل بين أكثر من مرحلة انتشار. فالمرحلة التي ذهبت فيها المصارف إلى قبرص مختلفة عن ذهاب «عوده» و«بلوم» إلى مصر والأردن، وهي مختلفة عن مرحلة «فرصة العمر في سوريا»، حيث ذهبت 7 لقطف ثمار تحرير الاقتصاد في سوريا، وهي أيضاً مختلفة عن مرحلة اكتشاف «عوده» لبلد مجاور اسمه تركيا، وعن استثمار بنك أوف بيروت في أوستراليا… وبحسب المعطيات المتداولة بين المصرفيين، فإن الأزمة المالية العالمية والربيع العربي ضغطا كثيراً على إمكانات الربح المتأتية من الفروع الخارجية للمصارف اللبنانية (سواء أكانت فروعاً مباشرة أم مصارف تابعة أو شقيقة أو شريكة)، وخصوصاً أن الجزء الأكبر من الأرباح كان يأتي من الفروع العربية في سوريا ومصر والأردن والعراق، علماً بأن القطاع المصرفي الخارجي لا يمثّل أكثر من 12% من أرباح المجموعات المصرفية، ويتوقع أن تتراجع هذه الحصة بنسبة كبيرة مع تراجع الأوضاع في هذه البلدان، وآخرها أن الحكومة العراقية أوقفت المتاجرة بالعملات مع المصارف الأجنبية، وبينها المصارف اللبنانية، أما الأوضاع في مصر وسوريا والأردن فلا تزال على حالها «حدّث ولا حرج».
ثمة الكثير من الأمثلة عن المراحل، لكن غالبيتها تأتي تحت سقف الانتشار ومعادلة «قنوات الاستقطاب». ففي السابق، ووفق روايات مصرفيين مطلعين، بلغ التنافس بين المصارف حدود إرسال موفدين من بين أعضاء مجلس الإدارة إلى الدول الأفريقية لحمل المبالغ في حقيبة وإدخالها عبر الحدود اللبنانية (القانون اللبناني لا يمنع، حتى الآن، إدخال أي مبلغ من المال نقداً). وفي ذلك الوقت، برزت نظرية «لبنان الملاذ الآمن»، وهي أظهرت لبنان كأنه يعيش على جزيرة وليس معنياً بما يحصل حوله من أزمات في العالم. لكن في الواقع، إن النموذج الذي بنته السلطات النقدية من أجل الحفاظ على نمو ودائع كافٍ يسمح بتمويل الدولة والقطاع الخاص، هو نفسه الذي أنقذ لبنان من تداعيات الأزمة، رغم أنه في المقابل يحفر أزمة أعمق في الهيكل البنيوي نقدياً ومالياً واقتصادياً.
إذاً، بعد الأزمة المالية العالمية في نهاية عام 2008، وبعد اشتعال الأزمات السياسية والأمنية والطائفية في غالبية الدول العربية المحيطة بلبنان، انخفضت وتيرة التوسّع إلى حدود التوقف، إذ كان الباب الأكبر لهذه المصارف هو تركيا وأربيل وبغداد والبصرة وسواها من المناطق العراقية، لكن الأمر انتهى مع سيطرة «داعش» على 30% من الأراضي العراقية، وهو الأمر الذي دفع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى استشراف مخاطر هذا الأمر على تمويل حاجات الدولة، فقال أمام المصارف في اللقاء الشهري الأخير: «استناداً إلى معطيات شهر حزيران، هناك تحسن في حركة الودائع، بما فيها ودائع غير المقيمين، ويُتوقع في ضوء ذلك أن يكون لدينا معدل نمو سنوي للودائع بين 6% و5%… عملية تمويل الخزينة تجري من دون تدخل مصرف لبنان».
الخيارات الصائبة
لا يوافق المدير المالي والتخطيط الاستراتيجي في بنك عوده، فريدي باز، على أن أهداف الانتشار تكمن في استقطاب الأموال فقط، فهو يعتقد أن الأصل يقع في الخيارات الصائبة وفي حجم المساهمة التي يمكن أي مصرف أن يبنيها في أي بلد، «كلما اتسع حجم المساهمة زادت حصّتها في أرباح المجموعة». ويشير إلى أن خيار الذهاب إلى تركيا سيتكرّس من خلال حصّة تركيا من أرباح المجموعة التي ستصل إلى 25% في عام 2016. ويشير إلى أنه لا توجد أي دواع للخروج من سوريا، وخصوصاً أن ورشة إعادة إعمار سوريا تقدّر اليوم بأكثر من 200 مليار دولار «وبالنسبة إلينا لا تزال مصر واعدة، ومنطقة الشرق الأوسط لا تزال واعدة، وفيها إمكانات هائلة، رغم أنها تمرّ في مرحلة صعبة سياسياً وأمنياً، لكن النمط الطبيعي هو في اتجاه الحياة والإعمار وليس الدمار».
لكن تركيا أمر مختلف، فهي تمثّل بالنسبة إلى بنك عوده «سوق مكملة»، وفيها «تناغمات تجارية ومالية وبشرية متزايدة مع العالم العربي». وبعد ثلاث سنوات، يجب أن «ننطلق في اتجاه أميركا اللاتينية»، حيث توجد جاليات عربية «ناجحة» تسمى «توركوس» (وهي تسمية أطلقها مواطنو بلدان أميركا اللاتينية على الوافدين إليها من حملة جوازات السفر العثمانية)، و«في اتجاه بعض الدول الأفريقية الوسطى (subsahara africa)».