كتبت فيفيان عقيقي في “النهار”
كانت تنتظر انتهاء العام الدراسي في عام 1987 لتنال شهادة البكالوريوس في الفلسفة. كانت تريد دراسة الحقوق وأن تصبح محامية، وربّما قاضية، مثل والدها الذي خُطف عام 1975 يوم السبت الأسود. لكنّها لم تكن تدرك أن تلك السنة ستحدّد مسار 25 سنة من حياتها. فتوقفت عن الدراسة. ارتدت فستان الزفاف الأبيض لكن حياتها كانت على نقيضه سوداء. بدل أن تتغيّر حياتها وتجد الاحترام في المنزل الجديد الذي تقصده، تحوّلت حياتها جحيمًا، وقبرًا دفنت فيه حيّة.
زوّجوني ليرتاحوا!
تروي (ح.ح.) قصّتها لـ”النهار”، فهي تزوّجت في سن الخامسة عشرة من رجل يكبرها بسنين. فبعدما فُقد والدها واعتبرته والدتها متوفيًا وتزوّجت غيره بعد سنة، أصبح حمل الفتاة وأشقائها ثقيلًا على زوج الأم. وتقول: “نحن سبعة أولاد من والدي، لذلك كان حملنا ثقيلًا على والدتي وزوجها، لذلك ما إن تقدّم أحد الرجال وطلب يدي، حتى وافقوا عليه. زوّجوني في عمر الخامسة عشرة. لم أكن أعرف معنى الزواج والحبّ، ولم أفكّر فيهما يومًا، كان جلّ تفكيري منصبّ على نيل الشهادة العامّة ودراسة الحقوق”.
يضربني ليتلذّذ بجسدي
أوّل اختبار غريب تعرّضت له كان ليلة الزفاف، فهي لم تكن تدرك أنّه سيريد تقبيلها أو حتى لمسها. وتقول: “لم أكن قد اختبرت الحياة بعد، بدأت المشكلات منذ الليلة الأولى عندما اشتكى لوالدتي بأنني لم أسمح له بتقبيلي. لم أستطع يومًا تقبّله ولم أقوى على حبّه، كنت أرفض اقترابه مني، فكان يضربني ليمارس الجنس معي. لم تتوقف الأمور هنا. منعت من إكمال دراستي، من رؤية صديقاتي، من الوقوف على الشرفة، من النزول إلى الطريق بمفردي، من سماع الموسيقى. ومنذ السنة الأولى للزواج لم أنفكّ أطلب من والدتي تطليقي منه، كنت أنزع المحبس وأقول لها إنني لا أريده، لكنها كانت تهتمّ بعادات المجتمع وكلام الناس، أكثر من اكتراثها بي وبسعادتي وراحتي”.
عذابات لا تنتهي
بعد سنتين من الزواج سافرت وزوجها إلى إحدى الدول الأوروبيّة. هناك أنجبت طفلتها البكر. ظنّت أن ابنتهما ستحسّن تصرّفاته معها، لكنّه أصبح يعنّفها أكثر من قبل. ثمّ أنجبت طفلتهما الثانية، والوضع على حاله. كانت تعمل وهو يستحصل على راتبها. ألغى شخصيّتها بعدما بات يتحدّث باسمها ويقرّر عنها. أصبحت خادمة له وهي لم تكن قد أكملت العشرين من عمرها. بعدها عادت إلى لبنان والأمور إلى مزيد من التفاقم. تقول: “تحمّلت الكثير. تحمّلت الضرب والإهانات، كسر ركبتي وأسناني ولديّ خرزة مفكوكة في أذني، أصبت بسرطان في الرحم بسبب علاقاته المتعدّدة. أصبحت خادمة له، سيطر على تفكيري من خلال الضرب. كنت أخافه جدًا. ولاحقًا بدأ يضرب الفتاتين ويعنّفهما أيضًا”.
أمي كابوسي
تعتبر أنّ والدتها كابوس حياتها الأليمة، فهي لم تقف يومًا إلى جانبها، وكانت تحرّض أشقاءها وشقيقاتها ضدّها، كانت تدافع عن زوجها وتخبره بمكان تواجدها ليذهب إليها ويؤذيها، وتمنعها بأي شكل من الأشكال من الانفصال عنه. ولكنها رغم ذلك تضع اللوم الأكبر على نفسها، وتقول: “على الإنسان أن يكون قويًا. أن يقول لا. أن لا يسمح للضعف الذي بداخله أن يسيطر عليه. أن لا يكترث لكلام الناس. فالخوف من الناس والمجتمع حرمني من حياتي”.
قانون “عَ ناس وناس”
أخيرًا وبعد سنوات من العذاب والذلّ، تجرّأت على تقديم شكوى بحقّ زوجها أو التسمية الأصحّ جلّادها، ذهبت إلى المخفر ورجلها مكسورة والدم ينزفّ من رقبتها وكتفها، لكن “كلّ مين إيدو إله” بحسب قولها، “هناك قوانين في لبنان، لكن هل من يطبّقها، الوساطات تلعب دورها، كلّ من لديه سند يستطيع تخطّي القانون. لقد دخل إلى المخفر ذليلًا وخرج منه شامخًا بفعل الوساطات السياسيّة. لقد تركت المنزل من سنتين تقريبًا، لأنه ضرب الفتاتين بعد إصرارنا على ذهابهما إلى الجامعة”. وتضيف: “على أي قانون جديد يصدر أن يركّز على إعطاء الفتاة التي تبلغ سنّ البلوغ استقلاليّة في اتخاذ قرارها بمعزل عن أهلها، لئلا يتحكّموا بها ويجبروها على ما لا تريده”.
لا ولو على قطع رقبتي
هل تفكّر بعيش قصّة حبّ في حال حصلت يومًا على الطلاق: “لا يمكن أي إنسان أن يعيش بمفرده، ومن الجميل أن يحبّ، لكن يجب عليه أن لا يعطي كلّ ما لديه، بل أن يحبّ نفسه أيضًا، وأن لا يسلّم نفسه بالمطلق”. هذه الحياة والأحداث والعنف والمشكلات التي لم تنتهِ يومًا كان لها تأثير على ابنتيها أيضًا، وتقول: “أجواء المنزل أثّرت في ابنتيّ كثيرًا، فهما لا تفكّران بالزواج وتخافان من الفكرة، لم أسمعهما يومًا تتكلّمان عن الزواج، ولا تضعان هذا المشروع في سلم اهتماماتهما، كما أنهما تسخران من أي فتاة تقدم على الزواج وتقولان لها (شو بدك بهل شغلة). أتمنى لهما أن تعيشا سعيدتين سواء أتزوّجتا أم لا، وألا تحتاجا إلى أحد، وألا تكشفا لأي شخص عن أي نقص لديهما، لأنه متى عرف نقطة ضعفهما سيستغلها. أريدهما أن تتكلّا على نفسيهما، وأن تكونا قويّتين، وأن تقولا “لا” متى اقتضت الحاجة، حتى لو كلّفتهما حياتهما”.
الموت له مئة مرّة
علامَ تتحسّر اليوم بعد سنين من الخوف والذلّ والضرب؟ تقول: “هناك كثير من الأمور، أهمّها عمري الذي مرّ من دون أن أقوم بأي شيء. ذهبت سنيني هدرًا. أمور كثيرة قد تكون سخيفة ولكنّها تعزّ في نفسي، فعندما أرى أي فتاة تحضّر لزواجها، أسأل نفسي لماذا لم أعش لحظات مماثلة؟ عندما تزوّجت لم أكن أعرف ما معنى الحبّ، لم أكن أفكر بالزواج ولا بالفستان الأبيض، بل بإنهاء دراستي والتخصّص في الحقوق، لم أكن أعرف ما هو الزواج. لقد تزوّجني بحسب قوله صغيرة لكي يربيني، لكن ألم يدرك أن الأرنب سيصبح أسدًا يومًا ما”؟
فكرة الانتقام لا تبارح تفكيرها، فهي عندما اشتكت عليه شعرت براحة نفسيّة، وبأنها استردّت القليل من اعتبارها. ولكن ذلك لم يشفِ غليلها، فتستذكر: “منذ سنوات أجريت عمليّة، وعندما عدت إلى المنزل كنت ما أزال أعاني من أوجاع الجراحة، سألته أن يجلب منقوشة لابنتي فطردني من البيت. جلست على درج المنزل أبكي لأنني لا أقوى على المشي. يا ريتني أستطيع الانتقام منه، أتمنى له الموت مئة مرّة في اليوم، لكنّه لا يموت”.
أريد أن أحيا
اليوم، تعلّق آمالها على ربّها، تريد الطلاق، تريد الحياة. وتقول: “لا أشعر بالذنب على شيء بعدما تركته، بل على العكس، لقد ارتحت. صرت أكل الطعام الذي أريده أنا، وأجلس على الشرفة، وأشاهد التلفزيون، وأنام في الوقت الذي أريده وأستفيق ساعة أشاء. الربّ وحده يدرك كم تحمّلت. طلبني إلى بيت الطاعة الآن، لكنني لن أعود. لم أعد أخاف أحدًا. لا أريده، أقرف منه، أقرف من رائحته، وطريق تصرّفاته، ومن صوته، ومن طريقة أكله ومشيه، لا أحبّ الإنجاب منه، لا أتقبّله بأي شكل من الأشكال. لا أريد العيش مكسورة بعد الآن، بل سأقرّر مسار حياتي بنفسي، بعدما مرّت هذه السنون الطويلة من دون أي ذكرى جميلة. أريد أن أعيش”.
مشروع قانون أوّل من نوعه
في لبنان، من المعلوم أن مسائل الأحوال الشخصيّة مثل الزواج والطلاق والإرث وغيرها، هي من اختصاص المحاكم الدينيّة وليس المدنيّة، وتحدّد الطوائف السنّ القانونيّة لزواج أتباعها. بالنسبة إلى المسلمين، هذه السنّ محدّدة بـ18 عامًا للفتيان وبين 14 و17 عامًا للفتيات، كما يمكن الاستحصال على إذن من المحاكم الدينيّة لتخفيض هذا السنّ. وبالنسبة إلى المسيحيين، تراوح هذه السنّ بين 16 و18 عامًا للفتيان وبين 14 و18 عامًا للفتيات. فيما الدولة اللبنانيّة تسمح بالزواج متى بلغ الفرد سنّ الرشد المحدّد في الدستور بسن الثامنة عشرة.
وفي وقت افتتح مجلس حقوق الإنسان دورته السابعة والعشرين في جنيف، لمناقشة كثير من القضايا أبرزها تزويج الأطفال والزواج المبكر والزواج القسري، أعدّت الهيئة الوطنيّة لشؤون المرأة اللبنانيّة، مشروع قانون يحدّد الأطر القانونيّة لزواج القاصرين، هو أوّل من نوعه في لبنان والمنطقة العربيّة.
وفي حديث لـ”النهار” يقول أمين عامّ الهيئة المحامي فادي كرم: “منع زواج القاصرين في لبنان غير ممكن واقعيًا، فحتى الدول الغربيّة والأوروبيّة تسمح به في ظروف استثنائيّة بإذن من المدعي العام، في حال لم يكن هناك أي مانع اقتصادي أو صحي. وفي مشروع القانون الذي أعدّ في الهيئة لم نطرح منع زواج القاصرين وإنّما مسألة تنظيمه”.
علامَ ينصّ؟
علامَ ينصّ مشروع القانون، وما هي التعديلات التي يلحظها؟ يردّ كرم: “الدستور اللبناني يلزم مراعاة أحكام الأحوال الشخصيّة في أي قانون يصدر. من هنا أبقينا على السنّ التي سمحت بها الطوائف بالزواج شرط موافقة رئيس الطائفة احترامًا للصلاحيّات المعطاة لهم، وأضفنا إليه ضرورة موافقة قاضي الأحداث، بعدما أضفنا فقرة إلى نصّ المادة 25 من قانون الأحداث 422، تعطيه صلاحيّة إعطاء إذن خاصّ لإتمام الزواج”.
وفي التفاصيل، يجب تقديم طلب زواج مجانيّ من المرجع الديني الذي سيعقد الزواج أو ولي الأمر أمام قاضي الأحداث، للقيام بتحقيق اجتماعي بواسطة الدرك أو مساعد/ة اجتماعي/ة للتأكّد من ظروف الزواج وعدم وجود أي عمليّة بيع، يُبت فيه خلال مهلة قصيرة لا تؤخّر الزواج، وعلى أثر نتيجة التحقيق يعطي المرجع المدني أي قاضي الأحداث إذنه بالزواج. أمّا عدم الالتزام فيرتّب عقوبات تراوح بين الغرامة والسجن بعدما عدّلنا المادة 483 من قانون العقوبات. وفي حال حصول اختلاف بوجهات النظر بين السلطتين الدينيّة والمدنيّة، تحال على محكمة الاستئناف التي تفصل بالموضوع وتكون مؤلّفة من أعضاء من الجهتين”.
كيف يفيد هذا القرار؟ وماذا ينظّم؟ يردّ كرم: “أوّلًا نحن لم نتعدَ على صلاحيّات الطوائف التي تُعتبر العنصر الأساسي في المجتمع اللبناني، ولم نلغِ هذا الزواج، خصوصًا أن الإذن الذي تعطيه ضروري لإتمام الزواج. لكننا قدّمنا ضمانة إضافيّة للقاصرين الذين يرعاهم قانون الأحداث من خلال الإذن الخاصّ الواجب الاستحصال عليه من قاضي الأحداث، وذلك من منطلق أن الدولة مُلزمة بتأمين حقوق رعاياها، إضافة إلى حقّها بالتشريع وواجباتها في حماية المجتمع. مشروع القانون هو مكمّل ويعطي حماية إضافيّة ولا يشكّل تعديًا على صلاحيّات الطوائف وأحكام الأحوال الشخصيّة”.