فراس أبو مصلح
في العاشر من الشهر الجاري، تقدم الرئيس السابق لمجلس النواب حسين الحسيني، ووزير المالية ونائب رئيس مجلس الوزراء الأسبق الياس سابا، والنائب غسان مخيبر، بمراجعة إلى مجلس شورى الدولة، تضمنت طلب إبطال قرار مجلس الوزراء بتاريخ 24 تموز 2014، وعنوانه «تأمين الاعتمادات المطلوبة للرواتب والأجور وملحقاتها من احتياطي الموازنة العامة»، وكذلك «سلسلة القرارات والمراسيم غير القانونية» الصادرة منذ عام 1993، التي «ما كان من الممكن أو المبرر» صدور القرار المذكور دونها، «والتي شكلت عملاً منهجياً يترجم قراراً ثابتاً وأكيداً، وإن ضمنياً ومغلفاً بحجج باطلة، يسعى إلى تعطيل الأسس الدستورية والقانونية لإدارة المال العام»!
تتضمن المراجعة الطلب إلى مجلس شورى الدولة تشكيل هيئة قضائية للإشراف على إدارة المال العام وفرض الضرائب والاستدانة، «بما يؤمن الوظائف الحيوية للدولة حصراً»، و«إيجاد صيغة تؤمن احترام المبادئ الأساسية للانتظام العام (استمرار الوظائف الحيوية للدولة وصيانة المال العام)، مع العلم اليقين باستحالة التطبيق الحرفي والفوري لأي من النصوص القانونية الإجرائية القائمة»، نتيجة للأمر الواقع الذي فرضته نتائج سياسات الحكومات المتعاقبة.
«الدولة مقبلة حكماً على التوقف عن دفع الرواتب بعد استحقاق نهاية شهر آب 2014 بشكل آلي وحسابي أكيد لا يرقى إليه أدنى شك»، تؤكد المراجعة، شارحة أن «الاعتمادات التي زعم مجلس الوزراء أنه استطاع توفيرها بمناسبة اتخاذه قراره بتاريخ 24 تموز تبلغ 900 مليار ليرة، بينما قيمة الرواتب التي دفعت في نهاية شهر تموز نفسه بلغت 440 مليار ليرة»، ذلك أن مجلس الوزراء كان قد اتخذ في التاريخ نفسه وفي تواريخ لاحقة قرارات بتوظيف آلاف العسكريين في قوى الأمن الداخلي والأمن العام والجيش، وتثبيت نحو 1400 أستاذ في الجامعة اللبنانية وعاملين متطوعين في الدفاع المدني، بالإضافة إلى «زيادة رواتب الموظفين والمعلمين والمتعاقدين بنسبة تقارب 40% من خلال سلفة خزينة غير قانونية منحها لنفسه في تموز 2012، دون إقرار سلسلة الرتب والرواتب».
تحذّر المراجعة كذلك من أن «الدولة مقبلة حكماً على التوقف عن الإنفاق على أبواب عدة تسمح بتأمين خدمات حيوية»، منها تمويل المؤسسة العامة للإسكان والمستشفيات الحكومية وغيرها من المؤسسات العامة، وذلك على خلفية «الاستمرار بالجباية وزيادة الاستدانة، خلافاً للدستور وللقانون»، وذلك «منذ انتهاء صلاحية آخر قانون يجيز الجباية، وإن كان قانون موازنة 2005 غير مستوف للشروط الدستورية الصريحة، أي خلال السنوات ما بين 2006 إلى منتصف 2014». تستند المذكرة إلى الإحصاءات المنشورة من قبل مصرف لبنان لتشير إلى زيادة الدين العام بالليرة اللبنانية وبالعملات الأجنبية، بين نهاية عام 2005 (نهاية صلاحية آخر موازنة) ومنتصف عام 2014، بقيمة 41 ألف مليار ليرة للدين الإجمالي، وبقيمة 30 ألف مليار للدين الصافي؛ وزيادة الدين الإجمالي بقيمة 3.3 آلاف مليار ليرة والدين الصافي بقيمة 2.6 ألف مليار ليرة خلال الأشهر الستة الأولى من العام الجاري. «وبما أن الدين يعني أعباءً ضريبية مؤجلة ومعظّمة بحكم تراكم الفوائد، فإن مجموع ما تمت جبايته عن غير وجه حق ومراكمته كدين عام عن غير وجه حق منذ نهاية سنة 2005، وبالتالي تحميله للبنانيين دون مسوغ شرعي، بلغ 135 ألف مليار ليرة (أي 90 مليار دولار أميركي)، أُنفقت بدورها دون وجه حق»، تقول المذكرة.
تكمن المعضلة في أنه «حتى لو توافرت النية لدى جميع متولي المسؤوليات العامة لإعادة قطار المؤسسات الدستورية والإجراءات القانونية الناظمة لإدارة المالية العامة إلى سكّته، وبذلت لهذه الغاية أقصى الجهود، وأُقرّ مشروعا موازنة 2014 و2015 في مجلس الوزراء ومجلس النواب، وصُدِّق على قطوع حسابات المالية العامة عن كل السنوات حتى سنة 2013 ضمناً، ونُشر قانونا الموازنة، فإن المهلة اللازمة لتنفيذ ذلك أطول بكثير من الآجال التي تفرضها ضرورات تأمين استمرار الجباية والإنفاق على الخدمات الحيوية والأساسية للدولة»، تشير المراجعة، مقترحة «تعيين هيئة إشراف قضائي على الأموال العامة كإجراء احترازي»، ريثما يتم إيجاد صيغة «تؤمن احترام المبادئ الأساسية للانتظام العام، أي استمرار الوظائف الحيوية للدولة وصيانة المال العام»، وتتيح «استبدال الأشكال الابتزازية للضغط المتبادل التي تمارس حالياً».
سياسات متعمدة فرضت أمراً واقعاً
في شرحها للمخالفات الدستورية والقانونية المتراكمة التي أدت إلى الواقع الحالي، تقول المراجعة إن «الحكومات المتعاقبة دأبت منذ عام 1993 على إرسال مشاريع موازنات تخالف نص المادة 83 من الدستور»، وذلك لناحية تقديم مشاريع الموازنات بعد انقضاء المهلة الدستورية، «وأحياناً حتى بعد انقضاء السنة المالية التي يكون قانون الموازنة نافذاً وصالحاً خلالها، ليسقط مع كل مفاعيله عند انتهائها»، وأيضاً لجهة عدم شمولية مشاريع الموازنات للإنفاق العام، «بحجج منها أن الإنفاق الممول من قروض خارجية ومن بعض الهبات يُستثنى من الموازنة». تضيف المراجعة أن إرسال مشاريع الموازنات كان مخالفاً للمادة 87 من الدستور، التي تنص على وجوب عرض حسابات الإدارة المالية النهائية لكل سنة على المجلس النيابي ليوافق عليها قبل نشر موازنة السنة التالية. لم يوافق المجلس النيابي على حسابات الإدارة المالية النهائية «وفق الأصول» منذ سنة 1993، كذلك لم تناقَش «مشاريع موازنات السنوات 2006 و2007 و2008 و2009 في مجلس النواب، وإن كانت قد أُرسلت إليه. أما مشروع موازنة سنة 2010، فقد جرت مناقشته في مجلس النواب، إنما دون إقراره، بسبب اكتشاف المجلس أن الحسابات غير منجزة نتيجة التشويه المتعمد في الحسابات (وفق تقارير عدة لديوان المحاسبة والبنك الدولي)»، بحسب المراجعة. وبعد هذا التاريخ، «لم تعمد حكومة الرئيس نجيب ميقاتي حتى إلى إرسال مشاريع موازنة إلى المجلس النيابي عن السنوات 2011 و2013 و2014، ما عدا إرسالها مشروعي لموازنة 2012، لم يناقَش في المجلس النيابي، فيما أرسلت مشروع قانون أقر تحت الرقم 238، نُشر في 22 تشرين الأول 2012، ينص على «فتح اعتماد إضافي يضاف إلى أرقام الموازنة العامة والموازنات الملحقة لعام 2005 لتغطية إنفاق عام 2012»، أي إن هذا القانون غطى الإنفاق حتى نهاية عام 2012 حصرياً، وسقط بنهاية سنة 2012»، تؤكد المراجعة. وجرياً على هذه التقاليد «العريقة»، لم ترسل الحكومة الحالية لتاريخه أي مشروع موازنة لسنة 2014 ولا لسنة 2015 إلى مجلس النواب الذي «لم يسائل الحكومات المتعاقبة على إخلالها الواضح والعلني بمقتضيات الدستور».
«أبرزت الحكومة الحالية، كما الحكومات الأربع السابقة، حججاً لا تستقيم قانوناً ولا دستوراً للتصرف بالمال العام»، فقامت بالإنفاق على أساس مشروع قانون الموازنة دون إقراره في مجلس النواب، متذرعة بـ«الإنفاق على أساس موازنات سنوات سابقة، بادعاء تطبيق القاعدة الاثني عشرية، والسحب من قروض سُحبت بمجملها، لا بل تم تسديدها، وإعطاء الحكومة سلفات لذاتها، وتمديد مهل سحبها إلى ما بعد الفترة القانونية، وعدم تسديدها وفق القانون»، تقول المراجعة. وقامت حكومات ما بعد عام 2005 بجباية الضرائب والرسوم بنحو غير شرعي، في مخالفة للمادة الثالثة من قانون المحاسبة العمومية التي تعرّف الموازنة كـ»صك تشريعي تُقدّر فيه نفقات الدولة ووارداتها عن سنة مقبلة، وتجاز بموجبه الجباية والإنفاق»، بحسب المراجعة التي تؤكد أيضاً لاشرعية الاستدانة التي قامت بها الحكومات نفسها، وذلك عبر إصدار سندات الخزينة، في مخالفة للمادة 88 من الدستور التي تنص على عدم جواز «عقد قرض عمومي ولا تعهد يترتب عليه إنفاق من مال الخزانة إلا بموجب قانون». تشير المراجعة إلى أن ما استجد في عهد الحكومة الحالية هو إعلان وزير المالية علي حسن خليل، رفضه الإنفاق دون صك تشريعي صالح، معتبرة الموقف «صحيح قانوناً»، رغم أنه يعني «التوقف عن دفع رواتب الموظفين وخدمة الدين العام، بدءاً من آخر شهر تموز الماضي، إلى أن تم إيجاد إخراج يشبه الإخراجات السابقة»، مشيرة إلى أن «الإخراج الجديد لا يصلح لأكثر من شهرين، أي أن التوقف عن دفع رواتب الموظفين وخدمة الدين العام سيعود إلى الواجهة اعتباراً من أيلول 2014 بشكل أكيد وثابت».
يقضي «الإخراج» المذكور «باستخدام مبالغ الاعتمادات الباقية في باب «احتياطي الموازنة» في القانون رقم 238 المنشور في 22 تشرين الأول 2012، الذي كانت قد انتهت صلاحيته منذ سنة ونصف، إضافة إلى مبلغ 199 مليار ليرة الوارد في بند احتياطي موازنة سنة 2005، المنتهية صلاحيتها بحسب تحديد المادة 83 من الدستور منذ ما قبل نشرها، أي قبل ثماني سنوات ونصف»؛ ولكونه «محدوداً في الزمن وفي مبالغ الإنفاق وفي أغراضه»، يدحض «الإخراج» «كل الحجج والقرارات السابقة التي اعتبر مبتدعوها أنها تشرّع الإنفاق بشكل دائم، وبمبالغ متجددة السقوف، ولكل الأغراض. ولو لم يكن يدحض كل الممارسات السابقة لما كان من داعٍ لاتخاذه»! تدعم المراجعة الرأي الأخير باستشهادها بتصريحات واردة في «الأخبار» للوزير حسن خليل، يشير فيها إلى إجماع «بلا نقاش على أن (السلفات) مخالفة للأصول، وأنها ليست مغطاة قانوناً، حتى وإن عُللت بالظروف الاستثنائية أو الضرورية»، مبدياً رفضه لأن يكون «تكرار المخالفة هذه خلال السنوات الماضية تكريساً لها كعرف أو قاعدة يمكن الاستناد إليها في الفترة الاستثنائية هذه أو في الفترات المقبلة». وبتصريح آخر لحسن خليل يشير فيه إلى أن «هذا الحل يمكن أن يسمح للوزارة بدفع الرواتب من دون مخالفة القانون، خلال الشهرين المقبلين، وربما غطى نصف رواتب الشهر الذي يليهما» فقط؛ وأيضاً بتصريح لرئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان، يشير فيه إلى أن «الفترة المحدودة لاستنفاد مبالغ الاحتياط لا تتجاوز شهراً ونصف شهر، ما يوجب العودة إلى مجلس النواب في مهلة لا تتعدى أيلول المقبل، والحلّ المطلوب هو إعادة إدخال المالية العامة في كنف الدستور والقوانين».
«خياران كلاهما غير مقبول»
يرى أصحاب المراجعة أن الأمر الواقع المفروض يضع الإدارة العامة أمام «خيارين كلاهما غير مقبول»: «إما وقف دفع أجور الموظفين وتهديد استمرار خدمة الدين العام، مع ما يرتب ذلك من كوارث، وإما تسوية تمحو مخالفات عشرين سنة ماضية، مقابل السماح بمخالفات قادمة بحجة قوننة أو تسوية تخالف الدستور والقوانين الأساسية». وبحسب المراجعة، فالخيار الأخير «أسوأ من الأول، لأنه يعني مقايضة جرمَي السطو على المال العام وعلى مال المكلفين الحاصل سابقاً، بجرم مماثل مستقبلي»، بدلاً من «العودة إلى المواطنين عبر الانتخابات».
يحذّر أصحاب المراجعة من أن الخيار الأخير يعني «تعليق نظام الدولة الدستوري، واستبداله بنظام صفقات منفصلة ومتبادلة يجريها عدد محدود من «الزعماء»، مع الحرص على تفصيل آليات النقض المتقابل لكل منهم، ضمن هيئتين قائمتين شكلياً، هما مجلس نواب ومجلس وزراء»، ما يؤدي إلى استحالة اتخاذ المؤسسات الدستورية للقرارات، إذ «يصبح السبيل الوحيد «لتمرير» أي قرار أو انتخاب أو تعيين، هو المساومة على مضامينها وتوسيع المنافع التي توفرها لكل من «الزعماء» وللزبائن».