سهى شمص
تخيّل العالم المادّي وهو ينصهر في العالم الرقمي. تخيّل مرآة افتراضيّة في متجر الملابس تمكّنك من قياس الملابس من دون الحاجة لارتدائها. تحرّك يديك فتغيّر بين الألوان وآخر الموديلات. تشتري ما تريد ثمّ تخرج من دون أن تدفع نقوداً ورقيّة لأنّ عهدها قد انتهى، هناك نقود إلكترونيّة تنتقل في العالم الافتراضي. ترجع إلى منزلك فتطلب بيتزا عبر الإنترنت، ترصد المنزل مروحيّة صغيرة من دون طيّار تحدد موقعك الجغرافي عبر برنامج رقمي وتوصلها لك.
تتناول البيتزا ثمّ بلمسة يد على شاشة رقميّة معلّقة على الجدار يقوم «المنزل الذكي» بإشعال المكيّف ورفع الستائر وتغيير الإضاءة في المنزل كلّه. في هذه الاثناء، تفكّر باقتناء حذاء يتناسب مع الملابس التي اشتريتها، يمكنك أن تصمّم هذا الحذاء وتصنعه وتقوم بإعادة تدويره أيضاً بنفسك، عبر الطباعة الثلاثيّة الأبعاد. ليس فقط هذا، يمكنك أن تصمّم وتصنع بنفسك أشياء كثيرة أخرى: كرسي، قطعة غيار لسيارتك، أو حتّى قطعة من الشوكولاته ذات تصميم فريد من ابتكارك. فهذه «المطبعة الذكيّة»، تدخل لها التصميم عبر الكمبيوتر ويكون لك ما أردت. فجأة يرن الجرس، فتهرع إلى الصف قبل بدء الحصّة الدراسيّة، على شاشة رقميّة كبيرة يطلّ المعلّم ويبدأ بالشرح. تشعر بألم بالرأس، تطلب الاستشارة الطبيّة أيضاً عبر الشاشة نفسها من خلال موقع إلكتروني آخر.
قد يصبح شكل حياتنا هكذا أو قد يكون الأمر مجرّد «تخيّلات» عن حياة المستقبل. علماً أن هذه الاختراعات والابتكارات موجودة اليوم لكن نمط الحياة اليومي الذي نتحدّث عنه لا تعيشه إلى الآن غالبيّة البشر. ربّما لأن بعض هذه الاختراعات بقي محصوراً بالدول المتقدّمة وبالطبقة الميسورة في هذه الدول. وربّما لأنّ سيطرة ما هو رقمي على كل نشاطاتنا الحياتيّة لن يكون كما هو متوقّع له.
يمكن القول إن التحوّل باتجاه الاقتصاد الرقمي قد بدأ منذ دخول الإنترنت الى حياة الإنسان، لكن ما لا يمكن تأكيده هو هل سيكون المواطنون الرقميون في المستقبل أكثر رقياً وسعادةً.
تقليدي أم رقمي
يشير بيل غيتس، أحد العرّابين الاساسيين للاقتصاد الرقمي، في كتابه «طريق المستقبل» إلى تحولّات عدّة ستطرأ على الاقتصاد الكلاسيكي بعد الانتقال نحو الاقتصاد الرقمي. كالاعتماد أكثر على شبكات المعلومات السريعة واللامركزية في اتخاذ القرار، ظهور أسواق وفرص عمل جديدة، استخدام التجارة الإلكترونية التي يختفي فيها الوسطاء، استخدام أقل للموارد الأرضيّة، أخذ الكثير من السلع والخدمات شكل ارقام ثنائية مخزنة في الحاسوب بدل أن تكون سلعاً مصنعة كالكتب والمجلاّت والنقود، ازدهار الأعمال والنشاطات والدراسة والعمل عن بعد.
توجد وجهتا نظر حول تأثير هذا «الاقتصاد» على الدول النامية والشركات المتوسطة والصغيرة. فواحدة تعتبر أنّه تأثير إيجابي يمكّن «الضعفاء» من منافسة «الأقوياء» أي الدول المتقدّمة والشركات الكبرى. وأخرى تعتبر أنه وعلى العكس سيخرجها من دائرة المنافسة ويعزّز من سلطة القوي.
يعتبر د.غسّان ديبة، وهو من مؤيّدي وجهة النّظر الأخرى، أنّ وجود اقتصاد جديد منفصل عن العالم المادّي هو مبالغ فيه، لذلك لا يمكن لدولة غير متطوّرة في الاقتصاد التقليدي أن تحقق تطوّراً في الاقتصاد الرقمي. واعتبر أن الشركات الكبرى والمتعدّدة الجنسيّة هي من سيسطر على هذا الاقتصاد. «هذا الاقتصاد يخضع لمبدأ «الرابح يحصل على كل شيء» أي أن الشركات المتمرّسة التي تستطيع التفوّق بربح ولو كان هامشياً على الشركات الحديثة النشأة تخرجها من دائرة المنافسة».
هذا ما يحصل، تحتكر شركات كبرى الترددات وحق استعمال الشبكات الأرضية والتراخيص التجارية لمنتجات تكنولوجيا المعلومات أي الشركات المتعددة الجنسية، هي من يسيطر على الانتاج العالمي، في حال لم تتوافر للشركات الوطنية الصغيرة المعايير وشروط المعلوماتية والرقمية. والسيطرة يزيدها فتح الاسواق ورفع الحواجز عن هذه الشركات مع مرونة تنقلها في العالم الافتراضي.
أمّا على صعيد الدول، فيظهر ما يتعارف على تسميته «بالفجوة الرقمية» بين الدول النامية والمتقدّمة نتيجة إعادة توزيع الثروة لمصلحة القادرين على الحصول على المعرفة وتكنولوجيا المعلومات. وعلى صعيد العمّال توفّر فرص عمل فقط للّذين يملكون مهارات معيّنة، ويصف بيل غيتس هذا الواقع كالتالي، «فقدان العديد من العاملين الذين لا يستطيعون مجاراة الواقع الجديد لوظائفهم».
يحاول لبنان البلد الذي ينتمي إلى الدول النامية أن يحجز لنفسه مكاناً وسط كل ما يجري، وإن جاء متأخراً كثيراً. هذه كانت رغبة الحكومة اللبنانيّة ورغبة وزراء الاتصالات خصوصاً. وكان الوزير السابق نقولا صحناوي قد حاول جاهداً الترويج لفكرة الاقتصاد الرقمي معتبراً انه «الفرصة الأخيرة لإنعاش الاقتصاد الوطني». يعرف الوزير السابق عن نفسه في حسابه الخاص على التويتر كالتالي، «مؤمن بقوّة أنّ لوبي شبابي رقمي يمكنه تغيير لبنان».
الدولة أم المصارف
هل فعلاً الاقتصاد الرقمي قادر على إنعاش الاقتصاد اللبناني؟ وما مدى التأثير الفعلي لهذا الإنعاش؟ وما هو دور الدولة في هذا المجال؟
يشكّل قطاع الخدمات العمود الفقري في الاقتصاد اللبناني، إذ يساهم بثلثي الناتج المحلي ويعمل فيه أكثر من 60% من اليد العاملة اللبنانيّة. لكن إنعاش قطاع الخدمات لا يعني إنعاش الاقتصاد اللبناني وهذه ليست فرصة أولى أو حتّى أخيرة. يشرح غسّان ديبة: «ما دام الاقتصاد اللبناني اقتصاداً استهلاكياً خدماتياً تسيطر عليه شبكة بنى اقتصاديّة ريعيّة خانقة، فلا مجال للتطوّر في الاقتصاد الرقمي». معللاً ذلك بأنّ الاقتصاد الرقمي لا ينفصل عن القاعدة الماديّة للاقتصاد، كونه مجرّد عامل مساعد إضافي يساهم في تطوير القطاعات الاقتصاديّة الأخرى. فمن لا يملك العوامل الأساسيّة كقاعدة ماديّة صلبة وأساسات لبنى اقتصاديّة منتجة لا يمكنه أن يعوّل على العوامل الإضافيّة». مضيفاً: «حتّى لو كانت الدولة تعوّل على هذا الموضوع. فهي لم تتعامل بشكل جدّي معه، ولبنان غير قادر على المنافسة الفعليّة في هذا المجال».
«لبنان غني بطاقات شبابه الإبداعية ومهارتهم التقنية، ما يمكن أن يجعله مركزاً إنتاجياً في صناعة المحتوى الرقمي العربي والبرمجة والتصميم وابتكار التطبيقات الجديدة». جمل ردّدها الوزير بطرس حرب في مؤتمر عرب نت 2014.
رغم المبالغة في تعظيم اللبناني وقدراته لكن لا يمكن إنكار وجود كفاءات وطاقات إبداعيّة. وفعلاً بفضل جهود فرديّة نشأت عشرات الشركات اللبنانيّة المختصّة بإنتاج السلع الرقميّة، وبعضها بدأ ينفتح على الأسواق العالميّة ويبيع منتجاته من داخل لبنان إلى زبائن حول العالم. كردّة فعل على هذا الواقع، هرعت وزارة الاتصالات إلى تأليف لجنة توجيهية يرافقها 6 شبان يملكون 6 شركات ناشئة لإقناع حاكم مصرف لبنان بضرورة تبنّي المصارف لهذا القطاع. أثمرت الجهود صدور التعميم رقم 331 منذ حوالى سنة، وينص على السماح للمصارف والمؤسسات المالية بالمساهمة، ضمن حدود 3% من أموالها الخاصة، في رسملة مشاريع ناشئة وحاضنات أعمال وشركات مسرِعة للأعمال يكون نشاطها متمحوراً حول الاقتصاد الرقمي.
تشرح المديرة التنفيذية لدى حاكمية المجلس المركزي ماريان حويّك لـ «الأخبار»، «خصّص المصرف المركزي مبلغًا يفوق الـ400 مليون دولار لدعم الاستثمارات في الشركات الناشئة في لبنان. يحاول المصرف تغيير طريقة التفكير بدور المصارف من مجرّد جهات مقرضة للشركات إلى جهات مشاركة في رأسمال هذه الشركات. وبالتالي فاعلة في القرار». وإذا كانت المصارف مهتمّة فقط بدعم المشاريع المتعلقة بالتجارة الإلكترونيّة والخدمات الإلكترونيّة أم أنّها تهتم أيضاً بمجال صناعة تقنية المعلومات. تجيب حويّك: «المصارف منفتحة على كل الأفكار المتعلّقة بتكنولوجيا المعلومات والاتّصالات. وإذا كانت هناك اختراعات في المجال الطبّي أو البيئي فيمكن تبنّيها». أمّا عمّا ينص عليه التعميم بالسّماح للمصارف التجارية بأن تساهم بـ80% من رأس مال الشركة الواحدة، وهي نسبة مرتفعة جداً تجعل المصرف يتحكّم بالشركة وقرارتها ما يحوّل صاحب الشركة إلى موظّف عند المصرف. تعتبر حويّك أنّ هذا الموضوع يخص المصرف وصاحب الشركة، «بعض المفاوضات بين الطرفين التي تأخذ بعين الاعتبار وضع الشركة من مختلف الجوانب، يجرى تحديد النسب على أساسها ونسبة الـ 80% هي في الحالات القسوى، فالمصرف سيتحمّل مخاطر الخسارة أيضاً». وحول احتمال عدم إقبال أصحاب الأفكار على التعاون مع المصارف، كون الاستثمار في المجال الرقمي لا يحتاج إلى رساميل كبيرة ودخول المصرف كشريك في الرأسمال بنسب مرتفعة أمر غير مشجّع. تجيب حويّك: «لقد كان الإقبال أكثر من المتوقّع إلى الآن». وتضيف: «لا يمكن تقييم النتائج الآن، فالأمر يحتاج إلى وقت».
يعتبر ديبة أنّ هذا التعميم يعني وضع يد المصارف على هذا القطاع، «أسوأ طريقة لتشجيع الصناعة الرقميّة وتشجيع الشركات الناشئة لا سيما أنّ المصرف يستحوذ على الحصّة الكبرى. على الدولة أن تقوم هي بهذا الدور وألا تتنصّل من مهماتها وترميها على المصارف».
ويعتبر ديبة ان الدور الأساسي للدولة: «تشييد قاعدة صناعية رقمية وإعادة هيكلة البنى التحتيّة. تطوير الكفاءات البشريّة عبر إقامة مراكز أبحاث ومراكز تدريب وتطوير المناهج الدراسيّة. ويحتاج الأمر بشكل أساسي إلى تغيير السياسات الاقتصادية العامة ومفهوم خلق الثروة، وتشجيع قطاع الصناعة خصوصاً. إضافة الى اقرار قوانين تواكب هذا القطاع».
لكن ماذا فعلت الدولة إلى الآن؟ عملت وزارة الاتصالات في مراحل متعاقبة على إعادة هيكلة البنية التحتية للاقتصاد الرقمي. فانطلقت مشاريع عديدة حسّنت من سرعة الإنترنت وطوّرت قطاع الاتصالات لجهة جودة الخدمة وخفض تكلفتها وأطلقت خدمة الـ3G والـ4G. وآخرها قرار تخفيض رسوم بعض خدمات الهاتف الثابت والإنترنت والخلوي. لكن جزءاً آخر من المشاريع لم يستكمل أو يفعّل، مثل تركيب كابينات صغيرة تعرف بـ Active Cabinets تؤدي الى رفع سرعة الانترنت DSL وخصوصاً للمنازل البعيدة اكثر من كيلومتر واحد عن السنترالات، ربط السنترالات بشبكة حديثة ومتطورة من الألياف الضوئية كمقدمة لإطلاق المشروع الحلم وهو ربط المنازل بالفيبرة او ما يعرف بـ FTTX، تحقيق مشروع Deep in Door على مستوى الـ3G والبوابات الدولية International Gateways والـ IP/MPLS للهاتف الثابت، وصولاً الى توسيع شبكة الجيل الرابع 4G. التي جمّد العمل بها.