ميليسا لوكية
إذا نجح ما اصطُلح على تسميته بالربيع العربي، في تحقيق بعض أهدافه في عدد من الدول التي طاولتها شرارة التظاهرات، كمصر التي بدأت عهداً جديداً مع وصول المشير عبد الفتاح السيسي الى سدّة الرئاسة الأولى، ومواصلة العمل على تعزيز السياحة والتخطيط لبناء قناة سويس جديدة، أو ليبيا التي تمكّن المعارضون فيها من إطاحة الرئيس السابق معمر القذافي رغم أن البلاد على شفير الهاوية حالياً، تختلف الحال في سوريا التي ما زالت حتى يومنا هذا تنوء تحت وطأة نزاع أرخى بظلاله على مفاصل الحياة فيها.
لم تكتفِ الأضرار الناجمة عن الحرب الطاحنة بالنيل من أهم المناطق السورية كحلب وحمص وغيرهما، بل تخطت نطاق الماديات لتضعها والارواح البشرية في الكف عينها. واليوم، وبعد مرور 3 سنوات على اندلاع الازمة وسقوط آلاف القتلى من نساء ورجال وأطفال، يبرز الى الواجهة سؤالٌ عن قدرة السوريين على اعادة اعمار بلادهم، وهل سيتمكنون من العودة الى المسار التنموي الفعّال، خصوصاً أن سوريا كانت على مسار يقود الى تحقيق أهداف الالفية التي اعتُمدت في الولايات المتحدة، اضافة الى تحقيق التنمية البشرية والاقتصادية. وبعدما صنفت في المرتبة الثالثة بين الدول العربية في تحقيق هذه الاهداف، هبطت الآن الى المرتبة ما قبل الأخيرة عربياً، تلتها الصومال. ويتوقّع الاقتصاديون أن تسوء الحال أكثر في حال استمرار الأزمة على ما هي عليه، اذ ان ما حققته سوريا في هذا المجال، أُهدر في ثلاث سنوات من النزاع الذي بيّن أن الفرصة مفتوحة دائماً لأحداث غير متوقعة، وأن تغير الوقائع العسكرية والأمنية على الأرض سيكون له أثر مباشر في المؤشرات التنموية، الخيارات المتاحة واعادة البناء (وفق ما أورد تقرير الاسكوا الذي تناول تداعيات النزاع في سوريا على الاقتصاد الكلي).
وبالاستناد الى هذا التقرير، يعتبر عام 2013 الأسوأ على كلّ الصعد منذ بدء النزاع، اذ شهد تدهوراً مستمراً في المؤشرات التنموية، وامتداد النزاع المسلح إلى مناطق واسعة، وازدياد تدفّق النازحين الى البلاد المجاورة كلبنان وتركيا والاردن، ما أدّى الى تقلص النشاط الاقتصادي في كلّ القطاعات والمناطق، وإغلاق أعداد كبيرة من الشركات وتسريح العاملين فيها، فتراجع المعروض من مجموعة كبيرة من السلع والخدمات في السوق، وارتفاع حاد في معدلات البطالة، وتدهور سعر الصرف الاسمي لليرة السورية مقابل العملات الأجنبية وانتشار تهريب هذه العملات والتجارة بها في السوق السوداء.
توازياً، سجّلت أسعار السلع المستوردة ارتفاعاً حادّاً، ولم تستفد القاعدة الإنتاجية للاقتصاد السوري من انخفاض قيمة العملة المحلية، فانخفضت الصادرات بشكل كبير، في ظل تفاقم العجز في الميزان التجاري بفعل العقوبات المفروضة على التجارة الخارجية والمعاملات المالية.
ولم يتوقف التدهور عند هذه النقطة، بل انسحب على الموازنة إذ اتسع العحز مع زيادة مخصصات الإنفاق الجاري، وتقلصت الإيرادات الضريبية وعائدات النفط، فارتفع الدين العام ارتفاعاً حاداً. كذلك، تراجعت الخدمات العامة نتيجة تدمير محطات الطاقة ومضخات المياه ومحطات معالجة الصرف الصحي ووسائل ومحطات النقل والمستشفيات والمدارس وآبار النفط وخزاناته وأنابيبه ومشتقاته، وأعداد كبيرة جداً من الأبنية السكنية.
وانخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (بالأسعار الثابتة لعام 2010) من 60 مليار دولار في 2010 إلى 56 ملياراً في 2011، ثم إلى 40 ملياراً عام 2012، وإلى نحو 33 ملياراً في 2013. وتقدر الخسارة الإجمالية للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (بأسعار 2010) خلال السنوات الثلاث الماضية بنحو 70.67 مليار دولار.
وتشير البيانات الواردة في التقرير إلى دخول الاقتصاد السوري في ركود تضخمي، وارتفاع مستويات تضخم أسعار المستهلك بشكل ملحوظ خلال فترة النزاع حتى بلغت أعلى مستوى لها (89.62%) في الفترة من 2012-2013. وتضخمت بشكل خاص أسعار المواد الغذائية والمشروبات، التي ارتفعت بنسبة 107.87% في الفترة نفسها. ويعود تسارع التضخم إلى انخفاض قيمة الليرة السورية مقابل العملات الأخرى في السوق السوداء، وارتفاع الأسعار نتيجة لذلك بنسبة 173% خلال الفترة الممتدة من 2010 الى 2013.
ويقدر مجموع الخسائر التي تكبدها الاقتصاد السوري طوال السنوات الثلاث للنزاع (2011-2013) بنحو 139.77 مليار دولار، إذ تكبّد القطاع الخاص خسائر بقيمة 95.97 مليار دولار (68.7%) من الخسارة الاقتصادية الإجمالية، بينما بلغت خسائر القطاع العام 43.8 ملياراً.
وبعيداً من الخسائر المادية وتراجع المؤشرات الاقتصادية، ارتفع معدل وفيات الأمهات نتيجة ضعف الخدمات الصحية الإنجابية، ونقص الأدوية وانقطاع الطرق.
كما ارتفع هذا المعدل لدى الاطفال ما دون الخامسة والأطفال الرضع، نتيجة تراجع الحصانة ضد مرض الحصبة من 92.9% إلى 57%، حتى إن بعض المحافظات السورية شهد تدهوراً في معدلات حصانة الأطفال ضد الحصبة وصلت إلى الـ70%.
كما أظهر التقرير عودة عدد من الأمراض، كان نسيها السوريون، كالسلِّ وشلل الأطفال والحمى المالطية والحصبة والسحايا، واستفحال أمراض أخرى كحبة حلب أو الليشمانيا والتهاب الكبد الفيروسي.
وأخيراً، وعلى رغم أجواء الحزن التي تخيّم على الشعب السوري والخسائر التي تكبّدها في كلّ القطاعات، تظهر الأرقام والمؤشرات إلى أن لدى سوريا القدرة على النهوض وإعادة البناء، لكن ذلك يتطلب جهداً داخلياً ودعماً دولياً، وبات من المستحيل تمويل العجز في الموازنة السورية إلا من خلال التمويل الخارجي أو المنح أو الديون أو الاستثمارات الأجنبية.