زيارة هيلين كلارك، رئيسة المجموعة الإنمائية للأمم المتحدة والمديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، وأنطونيو غوترس المفوض السامي لمفوضية الأمم المتحدة للاجئين إلى لبنان، لم تأت ضمن إطار المهمات التقليدية المطلوبة منهما. المجتمع الدولي ومنظماته استشعرا حقاً الخطر الذي وصل إليه الوضع في لبنان، بسبب تبعات أزمة اللاجئين السوريين والضغوط التي إذا ما تُركت تتفاقم فستصل حتماً إلى انفجار لا تحمد عقباه بين المجتمعات المضيفة ومجتمع اللاجئين
الزيارة الأولى لكلارك الى لبنان بدأت أول من أمس مع رفع إنذار واضح بازدياد معدلات الفقر والتركيز على انعكاسات الأزمة السورية واللجوء إلى تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية؛ لتستكملها أمس بجولة ميدانية في البقاع، وتحديداً في منطقة دير الأحمر، بهدف الاطلاع على أوضاع المجتمعات المضيفة ومخيمات اللاجئين.
مع الدخول إلى منطقة البقاع تبدأ معالم اللجوء بالظهور. خيم عشوائية تتوزع على جانبي الطريق وتتوسط الجرود الصفراء الخالية، أطفالٌ يتنقلون بين السيارات ونساءٌ يملأن غالونات المياه بزيّ أقرب إلى البدو، تجمعات صغيرة إنما كثيرة تفصلها بضعة أمتار. داخل هذه التجمعات العشوائية قصص كثيرة تحكي عن الهرب والمعاناة. نساء يختبئن من أعين الكاميرات فيما يتصدر الأطفال المشهد بضحكاتهم وأناشيدهم الترحيبية بهؤلاء «الغرباء» الذين دخلوا مخيمهم وسيغادرونه بعد قليل بينما يبقون هم هناك ينتظرون زوارا جددا. تدافع الأطفال باتجاه كلارك ليلتقطوا الصور معها. لا يعلمون من هي، ولا يهمهم، فهم اعتادوا التقاط الصور مع جميع من يأتي ليشهد طفولتهم الضائعة. أما الرجال، فوجدوها فرصة ملائمة لحل بعض المشكلات التي تواجههم ونقص المساعدات الذي تعانيه عائلاتهم. المخيم الذي حلّت فيه كلارك وغوترس يُعد حديثاً إذ لم يمضِ على اقامته سوى 5 أشهر، ويحتوي على 400 شخص غالبيتهم من الرقة. يواجه المخيم نقصا كبيرا في الاحتياجات، فهو يفتقر إلى حمامات مناسبة والعدالة في توزيع المساعدات الأساسية. دخل الاثنان إلى خيمة ياسر الذي رفض أن يظهر وجهه. تحدث من خلف ستار عن وضعه الاقتصادي الصعب الذي دفعه إلى الهروب من الرقة حيث أصبح الوصول إلى الغذاء والمياه صعبا جداً، وارتفعت الأسعار على نحو خيالي. يرفض ياسر الإجابة عن سؤال غوترس حول الوضع في الرقة، وتحديداً الأمني والسياسي. ابنته البالغة من العمر 12 عاما تعمل في الزراعة «6 ساعات يومياً مقابل 7500 ليرة»، لكن ماذا عن دراسة الأطفال السبعة؟ يسأل المفوض السامي، يأتيه الجواب بأن الأولاد جميعهم في عمر الدراسة لكنهم لم يتسجلوا في المدارس في لبنان.
دعم المجتمعات المضيفة لكي تستمر في ضيافتها
أوضحت له إحدى العاملات مع المفوضية في البقاع أن السبب هو تأخرهم في الالتحاق بالعام الدراسي فهم أتوا منذ 5 أشهر. لم يخفف هذا التبرير من الاستغراب الذي ظهر على وجه المفوض، كأنه لم يقرأ ان الاكثرية الساحقة من اطفال اللاجئين خارج المدارس، طالب بأن تعالَج مسألة الالتحاق المتأخر بالمدارس، إذ لا يمكن أن يكون هناك أولاد خارج المدرسة. مشكلة أخرى رواها اللاجئون للمفوض تُعد نقطة في بحر الممارسات الخاطئة والهدر الذي يحصل على حسابهم «نعلم أن المفوضية تغطي 75% من الرعاية الصحية لكننا نذهب إلى المراكز الصحية فيطالبوننا بالمبلغ كاملاً». هذا الكلام أثار غضب غوترس الذي نادى المسؤول عن متابعة الموضوع في المفوضية «يقولون إننا لا نغطي الـ75% من الرعاية الصحية، على أحد أن يتولى الاهتمام بالموضوع مع المراكز الصحية». لم تنتهِ الشكاوى هنا إنما انهالت على المفوض الذي أصغى جيداً وطالب بالمعالجة السريعة. حتى اليوم تمكنت المفوضية من الحصول على نسبة 36% فقط من النداء التمويلي المطلوب من المجتمع الدولي، ما دفعها إلى إيقاف بعض المساعدات مثل مواد التنظيف ولوازم الأطفال منذ شهر حزيران، وفق كلام مسؤولة العلاقات الخارجية في المفوضية لمنطقة البقاع ليزا أبو خالد. هذا الأمر يعني أنه ما لم يكثف المجتمع الدولي من دعمه فستنخفض المساعدات وسنتجه إلى آلية أخرى تقوم على اعتماد أولويات معينة في التوزيع. لم يطمئن أحد من الموفدين إلى استمرار المساعدات، كلامهم جاء عبارة عن تمنيات على المجتمع الدولي للاستمرار في التمويل.
لم يكن اختيار منطقة البقاع محض صدفة، هذه المنطقة تحتوي على النسبة الأكبر من اللاجئين بمعدل 410 آلاف لاجئ مسجلين لدى المفوضية، ما يعني أن حجم الضغوط على المجتمعات المضيفة هائل من ناحية الضغط على المستشفيات، المدارس، الطاقة، المياه… ويهدّد بتوترات عنيفة، إلا أن مناطق كثيرة في البقاع تعاني وضعا مأساويا أكثر بكثير من دير الأحمر، من هنا يُطرح التساؤل عن اختيار هذه البلدة ليتبين خلال الجولة أن «هذه البلدة تحتوي على أكبر عدد من المشاريع المشتركة بين البرنامج الإنمائي ومفوضية اللاجئين»، لتصبح الزيارة ترويجية إلى حدّ ما من دون إلغاء وظيفتها الاستطلاعية والتفقدية.
تصر كلارك على أن 28% من الشعب اللبناني يعيشون تحت خط الفقر بمعدل 4 دولارات في اليوم، وهذا «كان قبل اللجوء، فما بالكم بالوضع الحالي؟». الهدف الأساسي من الزيارة هو تفقّد المجتمعات المضيفة التي وصلت وفق كلام المبعوثين إلى مراحل خطرة من الاحتقان، ما يتطلّب تحركاً مغايرا في طريقة تقديم الخدمات «نحن هنا لنتأكد من أن ما نقوم به من مشاريع يركز على نحو اساسي على حاجات المجتمعات المضيفة لاحتواء الضغوط والتوترات». من هنا تحوّل اهتمام البرنامج الإنمائي والمفوضية من تقديم مساعدات معيشية للاجئين إلى التوجّه لإنماء المجتمعات المضيفة عبر الاستثمار في مشاريع تخلق وظائف جديدة، تخفض الفقر، وتؤمن موارد إضافية «لأن الوضع بات مأساوياً». تضيف كلارك «هذه الزيارة ترمي إلى تسليط الضوء على ما يحصل في لبنان لحث المجتمع الدولي على تقديم دعم أكبر. من المهم جدا دعم المجتمعات المضيفة لكي تستمر هذه المجتمعات في ضيافتها». أما غوترس فقد شدد على الضغوط التي تواجهها المجتمعات من «تراجع مستوى المعيشة، ارتفاع الإيجارات والأسعار، ما يؤثر على نحو سلبي على اللبنانيين». اعترف المفوّض بأن الدعم المقدم للبنان غير كافٍ نتيجة التضارب في المصالح السياسية، لافتاً إلى أن استقرار لبنان وسط الفوضى الموجودة حوله يعد أولوية، وهو ما تسعى المفوضية إلى التمسّك به من خلال احتوائها للمجتمعات المضيفة.
وسط التجمعات العشوائية، التي يبلغ عددها 700 في البقاع، حضرت مسألة إقامة مخيمات رسمية على الحدود، وفق ما يجري تداوله داخل الحكومة. أكد غوترس أن «هذا أحد الأمور التي نحن على استعداد للتباحث بها جِديا مع الحكومة لإيجاد حلول مناسبة، تأخذ بعين الاعتبار مخاوف الحكومة من جهة، وضرورة تأمين أماكن آمنة للاجئين من جهة أخرى»، ما يعني رفض المفوضية إقامة مخيمات بين الحدود. لقاء اليوم مع اللجنة الوزارية المعنية بملف اللاجئين عليه أن يحسم هذا الجدل الذي طال من دون اعتماد أي خطوات جدية. فإما أن تتجه الحكومة إلى مخيمات حدودية أو توافق مع المفوضية على مخيمات في الداخل اللبناني، لكن أن يبقى التوزع عشوائيا فهو أمر قد يصبح خارج السيطرة قريباً.