بروفسور غريتا صعب
المقاربة الاقتصادية بين وضعية بعض الدول تجعل من السهل استنتاج العبر لاسيما اذا ما كانت هذه الدول متقاربة من حيث الشكل، واقتصادياتها شبه مماثلة.
والحديث عن اليونان ليس بعيدا من المنطق والاستشراف. ما حدث هناك يجعل من المفيد دراسته واخذه على محمل الجد واستنتاج العبر، ربما ينفع ذلك في استدراك الامور وتحسين الوضع الاقتصادي في بلد مثل لبنان-والفارق الكبير بين اليونان ولبنان هو ان الأولى تدور في الفلك الاوروبي وتطلعاته ونحن في لبنان ندور في محيط له حيثياته الخاصة وظروفه المتفاوتة ومشاكله التي لا تنتهي.
في العام ٢٠٠٤ كانت اليونان بين ٢٩ دولة من الاكثر نموا في العالم، اما اليوم فهي ترزح تحت دين اكثر من ٣٠٠ مليار يورو مما يشكل حوالي ١٧٠٪ من الناتج المحلي الاجمالي، وواجهت منذ فترة ليست بعيدة احتمال الافلاس وخطر الخروج من الوحدة الاوروبية. وقد تكون هناك اسباب عديدة من المفيد التوقف عندها لأنها قد تعطي درساً مفيداً لمن اراد «اصلاح اقتصادي» في بلد مثل لبنان .
وللعلم، هناك قسم كبير من ازمة الديون اليونانية قد يكون مرتبطا بالنفقات التي تكبدتها جراء تنظيم الالعاب الاولمبية عام ٢٠٠٤ حيث انفقت المليارات في تطوير البنية التحتية لتلبية احتياجات هذا الحدث.
أضف الى ذلك، فان دخول اليونان منطقة اليورو ادّى الى تفاوت ضخم بين اسعار البضائع المسعّرة بالدراخما والتي اصبحت في اليورو دون ان يقابلها اي ارتفاع او زيادة في الرواتب.
قد تكون السياسات المتعاقبة منذ العام ١٩٨١ ساهمت الى حد بعيد في تفاقم الأزمة، سيما سياسة تجنيد واسعة النطاق في القطاع العام بدأت مع اندرياس باباندريو واكملها المحافظون الجدد مما جعل القطاع العام يستخدم ما يقرب من ١٠٪ من العاملين في البلد، وهذا العدد دفع بالمفوضية الاوروبية الى حث الحكومات اليونانية نحو تخفيضه.
هذا العامل هناك مثيل له في لبنان لاسيما الادارات العامة والقطاع التعليمي الذي يشهد اكتظاظاً هائلاً بنسب عدد الاساتذة مقارنة بالتلاميذ والوزارات والذي تعاقب عليها العديد ممن سعوا الى تأمين ناخبيهم واصدقائهم وانصارهم بحيث اصبحت هذه الوزارات تدفع الى قسم كبير منهم، لم يحضروا يوماً الى مراكز عملهم. والعامل الثاني وهو عامل بدأ منذ بداية الدولة اليونانية ولاسيما «Rousfeti» بما يعني الفساد باللغة العربية.
وهذه هي الحال في معظم تاريخ اليونان. وقد تكون المشكلة الرئيسية هي زيادة الفساد السياسي، وتعقيدات المعاملات، او ما يسمى «تحت الطاولة». وقد تكون بعض دوائر الوزارات في لبنان خير مثال على ذلك وما يجري فيها جدير بالتوثيق سيما المعاملات العقارية وغيرها، مما يستوجب خدمات عادة ما يدفعها المواطن اللبناني اضعاف اضعاف ما يدخل الى خزينة الدولة.
اذا كانت فضائح الفساد السياسي في اليونان قد شكلت العناوين الرئيسية لثلاثة عقود، قد تكون هذ العناوين نفسها قائمة في لبنان. المذنب يستطيع ان يبقى بلا محاكمة. هذا هو الواقع اللبناني اذ ان الجميع واعني هنا السياسيين والمجتمع المدني باستطاعتهم الاستفادة غير المشروعة، ومن دون التعرّض الى محاكمة او محاسبة.
ومن جملة العوامل ايضاً سوء ادارة الاقتصاد اذ ان اليونان مع بقية العالم الرأسمالي المتقدم تأثرت سلباً بظواهر العمولة لا سيما في قطاعي العمل والاسواق. والنتيجة، ان العديد من الشركات المحلية والاجنبية نقلت عملها الى الخارج لا سيما خطوط الشحن البحري اليوناني والاسطول التجاري والذي يعتبر من اهم الصناعات في اليونان اصبح اليوم يعمل تحت رايات اخرى، ويستخدم طاقما من الاجانب. هذا العامل ينطبق ايضاً على لبنان لاسيما من ناحية التأثر السلبي بالعولمة.
وهنا نرى عدم الادراك اللبناني. نعمل لسوق محلي دون ان نتطلع لما تتطلبه منا الاسواق العالمية لا سيما من ناحية الجودة والمنافسة والانضمام الضروري الى منظمة التجارة العالمية وما يفتح علينا ذلك من ابواب جمة، كذلك وجود عمال اجانب بنسبة كبرى في لبنان. وقد يدّعي البعض انهم في قطاعات معينة، ولكن وعلى ما يبدو بدأ السوق اللبناني يستخدمهم في مجمل القطاعات مستفيداً من اجور رخيصة.
هناك عامل نهائي يمكن ان نضيفه في هذه المقاربة يتمثل بتدفق اللاجئين غير الشرعيين والشرعيين خلال العقدين الذين مروا، والذي قد يعتبر ان له تأثيرا سلبيا على الأزمة اليونانية الا انه لا يمكن انكار ايجابيته، وهذا هو الوضع في لبنان غير اننا لا نرى له اية ايجابيات في لبنان لاسيما وان العدد فاق حالياً ربع عدد سكان لبنان مع ما يعني ذلك من ضغوط مباشرة على البنية التحتية وسوق العمل والامن .
قد يكون الفارق الوحيد هو القطاع المصرفي والذي يمكن اعتباره في اليونان، مشكلة في حد ذاته لاسيما مع تراكم القروض المتعثرة والذي يمكن القول انه وبعد ست سنوات متعاقبة من الركود الذي قضى على ما يقارب ربع الاقتصاد اليوناني.
ان القروض المتعثرة بلغت ٣٣،٥٪ من مجموع محافظ الاوراق المالية مقارنة بـ٣٢٪ منها في نهاية ٢٠١٣ بما دفع حكومة اليونان الى تشريع يغطي طائفة واسعة من القروض المتأخرة والمتعثرة مع تصميم على مساعدة كل المقترضين. وشملت التدابير مساعدة المقترضين خلال السنوات الخمس المقبلة من خلال تسهيلات تشمل توسيع شروط القرض وخفض اسعار الفوائد وتأجيل المدفوعات في بعض الظروف.
وهذا يختلف مع الوضع المصرفي اللبناني حيث يمكن القول وبالمطلق انه في وضع سليم لم يتأثر بالأزمة المالية، ولم يتعرض للهزات التي تعرض لها النظام المصرفي الاوروبي، وهذا ما يجعل الودائع في لبنان في تزايد مستمر بما يضمن حفاظ الليرة اللبنانية على وضعها السليم- ومقولة ان الليرة اللبنانية تتأثر بالاحداث الامنية اصبحت مجرد مقولة لا اكثر، اذ ان احتياط المركزي كاف لوقف اي محاولات تلاعب فيها كالذي حدث في العام ٢٠١١.
يبقى اخيراً القول ان السياحة في لبنان تتأثر بالوضع الاقليمي القائم لاسيما البلدان المجاورة مما جعل هذا القطاع يعاني منذ نشوء اللأأزمة السورية من وضع متأزم تأثر معه القطاع برمته وعائدات السياحة والتي كانت تشكل ركناً مهماً في الاقتصاد اللبناني اصبحت مشلولة عكس اليونان والتي وعلى ما يبدو استعادت عافيتها وعاد السياح اليها رغم انها ولا شك سوف تتأثر بالعقوبات الاوروبية على روسيا وتراجع الروبل امام معظم العملات بما يعني تراجع عدد السياح الروس فيها والذين كانوا يشكلون عدداً لا بأس به، مع العلم ان السياحة تشكل حوالي ١٦٪ من الناتج القومي المحلي حسب احصاءات SETE.
يبدو من هذه المراجعة ان اوجه الشبه بين الاقتصاد اليوناني واللبناني اكثر بكثير من المفارقات مما يجعل صانعي القرار والاقتصاديين بالتحديد مدعوين لمراجعة الوضع اللبناني بدقة لاستشراف السبل التي يمكن اتباعها لعدم الوقوع في مشاكل اليونان نفسها.