Site icon IMLebanon

أيّ نظام إقتصادي للبنان؟

Joumhouriya-Leb
بروفسور جاسم عجاقة

يتميّز الاقتصاد اللبناني بحرية الاستثمار والاستهلاك نتيجة الثقافة التجارية التي يتمتّع بها اللبناني منذ الفينيقيين حتى الآن. ويُعلمنا التاريخ أنّ الفينيقيين بَنوا مستعمرات اقتصادية في حوض البحر المتوسط إمتدت من الشاطئ الشرقي وصولاً إلى مضيق جييرالتار، حيث خلقوا مدناً على هذه السواحل كقرطاجة وغيرها، ونجحوا في تنشيط التجارة معتمدين بذلك على ماكينة إقتصادية داخلية متطورة في ذلك العصر ولوجستية متقدمة تمثّلت بأسطول من السفن التجارية.

وأخذت التجارة الفينيقية بالتطوّر إلى درجة سمحت لهم بجَلب النبيذ والقمح والزيت من فلسطين، والسجاد من مصر… وأمّن الفينيقيون بنية تحتية تمثّلت بمرافئ بحرية وطرقات داخلية تسمح لهم بتصدير بضائعهم من الداخل اللبناني إلى سيسيليا وسردينيا وقرطاجا… وبُعَيد سقوط صور وتدميرها على يد نبوخذ نصر (في العام 573 قبل الميلاد)، إنتقل الفكر الاقتصادي الفينيقي إلى القرطاجيّين واليونانيّين والرومان ومِنه إلى أوروبا.

وفي العصر الحديث (منذ العام 1500) باشرَ الأوروبيون تطوير النظام الاقتصادي الفينيقي وتحديثه، واستخدموه على نطاق واسع مع اكتشاف أميركا على يد كريستوف كولومبوس.

وفي القرن الماضي، تمّ رسم معالم الأنظمة الاقتصادية العالمية في معظمها، وكان هناك انقسام حاد في الأفكار حول الأنظمة الاقتصادية التي اعتمدتها الدوَل. وساعدت الحرب العالمية الثانية في بروز نظامين اقتصاديين عالميين يعتمدان على الفكر الفينيقي: الرأسمالية والشيوعية.

وما يُميّز هذين النظامين عن بعضهما البعض هو مدى تدخّل الدولة في النظام الاقتصادي. وفي حين يقتصر دور الدولة في الاقتصاد الرأسمالي على دعم اللاعبين الإقتصاديين، تؤدي الدولة مركزاً محورياً في الاقتصاد الشيوعي.

ويرى الرأسماليون أنّ العدالة الاجتماعية يخلقها النشاط الاقتصادي حيث يتلقّى الشخص ثمرة أتعابه، إلّا أنّ الشيوعيين يرون أنّ العدالة الاجتماعية تنصّ على توزيع الدولة للثروة بالتساوي بين المواطنين.

أمّا في أوروبا فتراوحت الأنظمة الاقتصادية بين الشيوعية (بلدان أوروبا الشرقية)، والإشتراكية (بلدان أوروبا الغربية)، والرأسمالية البحتة (بريطانيا).

وذهبت بريطانيا بعيداً في نظامها الرأسمالي إلى حد خَصخصة كل مرافئ الدولة البريطانية ضمن نطاق سياسة التحرير التي اتّبعتها الإمرأة الحديدية، ومعها اختفت العدالة الاجتماعية في هذا البلد. ولم يكن الحال أفضل في الجهة الشرقية، وتحديداً في روسيا، حيث كانت العدالة الاجتماعية نسبية (طبقة الكرملين!).

وأظهرت الأحداث الاقتصادية الحديثة مدى هشاشة الاقتصادات العالمية في ظل العولمة، التي تأخذ جذورها من الحضارة الفينيقية. وبدأت الدول تعمل على إعادة دَوزنة أنظمتها الاقتصادية بشكل يسمح لها بتحقيق هدفين: النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.

في لبنان، أخذت السياسة الاقتصادية اتجاهات مضادة في بعض الأحيان في قرارات سياسة اقتصادية لا زالت تُتّبع حتى اليوم. فبين سياسة نقدية حرة تعتمد على حرية تنقّل رؤوس الأموال والسرية المصرفية، وبين سياسة توظيفية تعتمد على القطاع العام، نرى أنّ السياسة الاقتصادية والنظام الناتج عنها يتأرجح بين الرأسمالية والـ assistanat، وهذا بالطبع لا يبني بلداً.

على سبيل المثال، إنّ الدعم المؤمّن من قبل الحكومة للقمح والمحروقات واحتكار الدولة لبعض الخدمات التي تُلقي بعبئها على الخزينة العامة كالكهرباء، يُظهِر إلى العلن الطابع الشيوعي في مقاربة الموضوع. من ناحية أخرى نرى أنّ حرية تنقّل رؤوس الأموال هي ميزة من ميزات الأنظمة الرأسمالية.

والمثال المؤسف هو السياسة التوظيفية التي تتبعها الدولة التي توظّف أعداداً هائلة من الأشخاص لا يُمكن للهيكلية الإدارية الحالية ولا لخزينة الدولة تحمّلها. ويُبرّر معظم القيّمين على هذا الأمر بالعدالة الاجتماعية. وللأسف نرى أنّ هذا المزيج لا يعود بفوائد على الاقتصاد اللبناني، بل على العكس يؤدي إلى عدم تطوّر الهيكلية الاقتصادية، وإلى ضرب المالية العامة.

والعدالة الاجتماعية لا تكون بسياسة توظيفية في الدولة لا إنتاجية فيها، بل على العكس، تكمن العدالة الاجتماعية في تأمين الوظائف للمواطنين لكي يكون هناك نموّ ناتج عن عملهم، وفي الوقت نفسه عدالة اجتماعية عبر توزيع الثروات.

إنّ السياسات الإقتصادية بمفهومها الواسع تهدف إلى تأمين الحياة الكريمة للمواطن. من هنا نرى أنّ إدخال التطور الإقتصادي في مؤشر التطور الإجتماعي الذي تنشره سنوياً الأمم المتحدة، هو دليل على أهمية أن تكون السياسة الإقتصادية، بشقّيها المالي والنقدي، في خدمة الإنسان.

لكن هذه السياسات التي تُركّز على الشق المادي، يجب أن تأخذ بالاعتبار التطور الفكري للمواطن وتفاعله مع المجتمع. لذا، تبرز أهمية التحفيز لأنّ تصرّف الأفراد يُفسّر بالمصلحة الذاتية العقلانية التي يتبعها كل فرد في حياته اليومية. وهذا الأمر يفرض على الدولة عدداً من الإجراءات التي تخدم مصلحة المواطن اليومية كما مصلحة الأجيال:

– إتّباع سياسة التحفيز مع الأخذ بالاعتبار احترام القوانين (مبدأ الـ Carotte et Bâton)؛
– إتّباع مبدأ المنافسة في تحديد الأسعار مع قيود على السلع الحيوية؛
– إتّباع مبدأ الشفافية في أداء الدولة ومؤسساتها، ما يضمن حقوق المواطن.

بهذا تُصبح الدولة عادلة تجاه المواطن عبر فرض عدالة اجتماعية ليبيرالية، إذ إنّ هذه الأخيرة لا تعني بمعناها الاجتماعي غياب القيود.
وتميّزت الفترة المُمتدة بعد الاستقلال وحتى يومنا هذا بضعف الإستثمار في الاقتصاد على رغم الاستثمارات في البنية التحتية (طرقات ومرافئ وعقارات) في تسعينات القرن الماضي. والغياب الأكبر كان الدعم للشركات الخاصة ودعم الأبحاث، ما أدى إلى تطوّر الاقتصاد خدماتياً، وبقيت القطاعات الزراعية والصناعية تعتمد بشكل رئيسي على المبادرات الفردية.

وكنتيجة لهذا الوضع أصبح الاقتصاد عاجزاً عن استيعاب الكفاءات والمهارات العالية التي وجدت طريقها في بلاد الاغتراب. وبذلك حُرِمَ الاقتصاد اللبناني من هذه الكفاءات والمهارات التي كانت ستُساهم بتطوّره لَو انها بقيت في لبنان، ولَو كان هناك خطة وطنية لدعم الأبحاث.

وغياب هذه المهارات والكفاءات أدّى إلى استيراد الأيدي العاملة الأجنبية الأقلّ مهارة من الدول الأخرى، لتقوم بالأعمال التي لا تتطلّب مهارات فكرية. والنزوح السوري الكثيف في الآونة الأخيرة أدى إلى منافسة العامل اللبناني وزاد نسبة البطالة.

من هنا نرى أنّ النظام الاقتصادي الواجب اعتماده هو النظام الديموقراطي الليبيرالي الاجتماعي، وهو وحده القادر على تأمين النمو والعدالة في آن واحد.