كثيرا’ ما يتم الإعلان عن تسوية بين إحدي الشركات الكبيرة وبين السلطات الأمريكية التي تدفع بموجبها هذه الشركة أو البنك غرامة كبيرة بملايين الدولارات وأحيانا المليارات, وذلك عقوبة لها علي اقترافها مخالفة ما للقوانين والقواعد التي تضغها الولايات المتحدة- حتي وان كان الإثم الذي وقعت فيه خارج نطاق الحدود الأمريكية- والواقع أن ما يجبر الشركات علي الرضوخ لأوامر العم سام هو الخوف من الوقوع تحت طائلة العقوبات والحرمان من العمل علي الاراضي الأمريكية. والأمر تحول في السنوات الأخيرة من ردع جرائم البيزنس إلي ابتزاز خلف الأسوار, والجمهور آخر من يعلم بحقيقة ما يجري. هل كان هناك مخالفة قانونية بالفعل أم أن المسألة وراءها غرض سياسي أو مادي حتي إن البعض يتهم الجهات التنظيمية والرقابية بتحولها إلي مراكز ربحية.
وقوع الشركات والبنوك العالمية فريسة للسلطات الأمريكية بات يقلق قادة أوروبا الذين بدأوا يبدون استياءهم من فرض الولايات المتحدة لقوانينها في أرجاء المعمورة. أما مجتمع الأعمال الدولي فيتساءل ما السر وراء إبرام تسويات بعيدا عن المحاكم. في الوقت نفسه لماذا تدفع الشركات ملايين الدولارات إن لم تكن مذنبة. يقول كثيرون انه يجب معاقبة الشركات عندما تقترف خطأ, ولكن نظام القانون الامريكي بات أداة ابتزاز.
مجلة الايكونومست اتهمت الجهات الرقابية بابتزاز الشركات عن طريق اتهامها باقتراف مخالفة قانونية وتهديد مديريها بالتدمير لاسيما رفع دعاوي جنائية وإجبارهم علي استخدام أموال حملة الأسهم في دفع غرامات باهظة لإسقاط التهم في سرية شديدة( حتي لا يقوم احد بالتحقق من التفاصيل).
وتساءلت الايكونومست من الذي يدير أكبر عمليات ابتزاز في العالم ؟ الجواب جاء بأنه ليس المافيا أو جيش التحرير الشعبي الصيني أو لصوص في الكرملين وإنما الجهاز التنظيمي في الولايات المتحدة. والعملية بسيطة إذ لا تستدعي سوي العثور علي شركة كبيرة وقد اقترفت مخالفة.
بنك أوف أمريكا, جي بي مورجان تشيس, سيتي جروب, جولدمان ساكس وبنوك أخري دفعت ما يقارب50 مليار دولار حتي الآن خلال هذا العام لتسوية اتهامات بتضليل العملاء فيما يخص سندات مغطاة برهون عقارية. بنك بي ا ن بي باريبا مطالب بدفع9 مليارات دولار بسبب انتهاك عقوبات أمريكية ضد كل من السودان وإيران. أما كريدي سويس, يو بي اس, باركليز, وبنوك أخري فقد أبرمت تسويات بمليارات الدولارات أيضا, حول اتهامات أخري. وهذا فيما يتعلق بعقوبات المؤسسات المالية فحسب.
تسوية بريتش بتروليم, حول التسرب النفطي في خليج المكسيك, قدرت بنحو13 مليار دولار. تويوتا دفعت1.2 مليار دولار لتسوية أخطاء مزعومة في بعض سياراتها, هذا بالإضافة إلي تسويات مع وول مارت, أكبر متاجر التجزئة في العالم, وجنرال موتورز, أكبر شركة سيارات في أمريكا وغيرها.
والمشكلة ليست في معاملة الشركات كمجرمين ولكن المخالفات التي يتم معاقبة الشركات بسببها غالبا ما تكون غامضة والأسباب وراء العقوبات غير واضحة مما يثير الشكوك حول إحقاق العدالة وخدمة المصلحة العامة.
في حالات كثيرة الشركات تستحق بالفعل شكلا من أشكال العقاب, وعلي سبيل المثال, بريتش بتروليم تسببت في تلويث خليج المكسيك. ولكن لا ينبغي أن تقوم العدالة علي الابتزاز وراء الأبواب المغلقة. والتجريم المتزايد للشركات في أمريكا يسيء إلي سيادة القانون والي الرأسمالية.
يري الخبراء أن مناخ الأعمال الامريكي بات معقدا, وتكلفة الالتزام بجميع المتطلبات القانونية ضخمة. وبحسب استطلاع أجرته كلية الحقوق في جامعة شيكاغو لنحو128 شركة, قد تصل التكلفة إلي40 مليون دولار سنويا, وهو ما يفوق قدرة كثير من الشركات ويعرضها للمساءلة والعقاب.
أمريكا الآن لديها مئات الآلاف من القواعد التي تحمل شكلا من أشكال العقوبات الجنائية. وفي الوقت نفسه يدرك المديرون التنفيذيون فائدة عقد تسويات سريعة وسرية من أجل تجنب محاكمات طويلة, مكلفة ومحرجة, تسفر في النهاية عن خسارة عملاء وعقود وربما رخصة العمل.
عيوب نظام المسئولية التقصيرية( كل خطأ سبب ضررا للغير) في القانون الامريكي معروفة جيدا. الجديد في الموضوع هو أسلوب المنظمين وأعضاء النيابة العامة في عقد محاكمات سرية خلف الأبواب المغلقة. وبعيدا عن الحديث عن المصلحة العامة, فإن الهيئات التي تفرض غرامات علي الشركات أصبحت مراكز للأرباح الطائلة. وعلي سبيل المثال, البيروقراطيون في رود ايلاند, التي تعتبر أصغر ولاية في الولايات المتحدة, ينفقون ببذخ هذه الأيام بفضل الغرامة التي تكبدتها جوجل بنحو500 مليون دولار( بسبب نشر إعلانات عن أدوية غير مشروعة).
وفي عام2013 بلغت حصيلة إيرادات وزارة العدل من الملاحقات الجنائية للشركات5.5 مليار دولار مدفوعات مباشرة بالإضافة إلي2.6 مليار حصلت عليها وكالات فيدرالية أخري.
ويكشف النزاع بين حاكم نيويورك والنائب العام حول كعكة التسوية مع بنك جي بي مورجان, المقدرة بأكثر من613 مليون دولار, عن مدي نفوذهم الذي يتجاوز قوة المحاكم. فالمنظمون ليسوا قضاة ومحلفين فحسب وإنما مدعون أيضا, وبإمكانهم التهديد بالقانون الجنائي كذلك.
الجدير بالذكر انه نادرا ما تنجو أي شركة بعد اتهامها بتهمة جنائية, ولذلك يحرص مديرو الشركات علي الابتعاد عن القضاء حماية لمستقبلهم الوظيفي. ومن ثم يكون من الأفضل دائما ــ وابدا ــ التضحية بأموال حملة الأسهم ودفع التسويات الباهظة( حتي وان لم تكن هناك مخالفة قانونية). وبالتالي موافقة الشركات علي دفع الغرامات ليست بالضرورة دليلا قاطعا علي إدانتها.
ربما كان أبرز ما في تلك المسألة هو السرية والتعتيم. فالجمهور لا يعرف أبدا الحقيقة كاملة أو من المسئول- بشخصه- عن المخالفة. وحيث إن الأمر ينتهي دائما قبل الوصول إلي ساحة القضاء فلا يوجد سابقة يمكن علي أساسها تحديد بدقة ما هو غير قانوني. الأمر الذي يتيح عمليات ابتزاز مستقبلية تضر بسيادة القانون وتفرض تكاليف هائلة.
حتي الآن لا احد يعرف كيف يتم تقسيم الغنائم. وعلي سبيل المثال, كان حاكم نيويورك, الذي يسعي إلي إعادة انتخابه, قد طالب بزيادة نصيب خزينة الولاية من تسوية بنك بي ان بي باريبا المقدرة بمليار دولار مهددا’ باستخدام صلاحياته لسحب رخصة البنك الفرنسي بالعمل في وول ستريت. الأمر الذي أثار تساؤلات حول أحقية الولاية في أي نصيب من غرامة يدفعها بنك فرنسي لم يلتزم بالسياسة الخارجية للحكومة الفيدرالية.
وقد أوصي تقرير الايكونومست بضرورة تطبيق معايير الشفافية والكشف عن تفاصيل التسويات التي تتم بين الجهات الحكومية سواء كانت وزارة العدل أو وكالات فيدرالية وبين الشركات. وقال التقرير إن أفضل شيء أن بعضا من هذه القضايا تذهب إلي المحاكم للفصل فيها. ومن ثم يتيسر الكشف عن تفاصيلها. وهذا ربما لن يكون في صالح الجهات التنظيمية أو الفريسة نفسها, لكنه سيحمي حملة الأسهم بعض الشيء.
اثنان من أعضاء مجلس الشيوخ, إليزابيث وارن وتوم كوبورن, طرحا مشروع قانون بإلزام الجهات المعنية بالإعلان عن تفاصيل التسويات التي تجريها مع الشركات المختلفة, وبمطالبة أعضاء النيابة العامة والجهات التنظيمية بالإفصاح عن أسباب عدم الذهاب إلي المحاكم طالما كانت الاتهامات الأولية بهذه الخطورة.
علي المدي الطويل سيتعين إجراء تعديلين علي النظام القانوني. الأول فصل واضح بين القانون المدني والجنائي فيما يتعلق بالشركات. معظم مخالفات الشركات هي مخالفات مالية تنتمي إلي المحاكم المدنية. وإذا تبين خلال مسار الدعوي خرق مديريها للقانون الجنائي, يمكن في هذه الحالة توجيه تهمة جنائية.
أما التعديل الثاني فيكون بتقليم شديد للقوانين. فعندما تأسست أمريكا, لم يكن هناك سوي ثلاث جرائم فيدرالية محددة هي الخيانة, التزوير, القرصنة. لكن وبحسب إحصاءات جرت في التسعينيات هناك مجموعة كبيرة تصل إلي300 ألف مخالفة تستدعي عقوبات جنائية, وربما زادت حاليا.
بالنسبة للشركات المالية تحديدا, هناك العديد من القوانين المنظمة لها( مثل آلاف الصفحات المتعلقة بإصلاحات دود فرانك) والمعقدة بدرجة تجعل إنفاذها أمرا تقديريا, وهذا يضعف القدرة علي التنبؤ والوضوح اللذين يشكلان أسس سيادة القانون, ويثير احتمال مخاطر نظام- انتقائي فاسد- العدالة فيه أن يكون الجميع مذنبين وتتحدد العقوبة من خلال صفقات سياسية.
أنهت الايكونومست حديثها بتساؤل آخر وهو:
كيف يمكن للولايات المتحدة أن تنتقد الصين وتتهمها باضطهاد الشركات الأجنبية في الوقت الذي تقوم فيه بنفس الشيء؟