IMLebanon

الحل لمشاكل السودان الاقتصادية سياسي بامتياز

al-hayat
عدنان كريمة
على رغم سلسلة المؤشرات السلبية التي تواجه السودان، فان ما يعانيه ليس ناتجاً من مشكلة اقتصادية، بل عن أزمة سياسية مستمرة لم تنته بتقسيمه مع انفصال الجنوب. ولكن يبدو انها تنتظر تحقيق مصالحة قومية تشمل الشعب السوداني بفئاته وأعراقه وأقاليمه المختلفة، وقيام حكومة تكنوقراط غير مسيسة تعمل على توفير السلام في مناطق الحروب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الازرق، وتحضر لانتخابات مبكرة بحياد وشفافية ونزاهة. ولا شك في ان تحقيق كل ذلك يحتاج الى تنازلات كبيرة شبيهة بما فعله حزب النهضة في تونس. فهل يقدم قادة الشعب السوداني على هذا الانجاز الكبير؟
منذ نحو 31 سنة، وبالتحديد منذ ايلول (سبتمبر) 1983، والسودان يعيش في عزلة سياسية واقتصادية، بدأتها الولايات المتحدة بعد اعلان الرئيس السوداني السابق جعفر محمد نميري ما اطلق عليه النظام آنذاك «قوانين الشريعة الاسلامية». وفي 30 حزيران (يونيو) 1989، زادت وتيرة الحصار بعد قيام ثورة الانقاذ، ثم زادت مرة أخرى عام 1990، نتيجة موقف الخرطوم من غزو العراق للكويت، ودفع السودانيون ثمناً كبيراً لهذا الحصار، خصوصاً بعد انضمام دول الخليج وبعض الدول الغربية اليه، وتراجعت نتيجة ذلك تحويلات السودانيين العاملين في الخارج والتي كانت مقدرة بنحو ثلاثة بلايين دولار سنوياً.
عام 1997، اشتد الحصار الاقتصادي الأميركي على السودان، وفي ايلول 2001، وضعت الولايات المتحدة حكومة الخرطوم على قائمة الدول التي يجب محاصرتها اقتصادياً.
واذا كان النفط هو السبب الرئيس للحصار الاقتصادي، فقد خسر السودان نتيجة تأخر استغلاله لأكثر من 15 سنة، نحو 100 بليون دولار، حتى توج هذا الحصار بانفصال الجنوب في تموز (يوليو) 2011، وانفصلت معه عائدات نفطية تزيد على سبعة بلايين دولار سنوياً. وبدلاً من ان يرفع الحصار الاقتصادي بعد الانفصال، شهد البلد تأجيجاً للصراع في جنوب كردفان والنيل الأزرق فضلاً عن منطقة دارفور.
ولعل القطاع المصرفي السوداني كان الاكثر تضرراً، اذ قدرت خسارته خلال 16 سنة، (1997-2014) نحو تسعة بلايين دولار. وبدلاً من ان يتعامل هذا القطاع عبر النظام المالي الدولي، اضطر للتعامل مع السماسرة و “تجار الشنطة” والعملة في السوق السوداء، ما ادى الى زيادة الكلفة، وترتيب أعباء باهظة على الدولة، وكذلك على مؤسسات القطاع الخاص التي تعرض بعضها للافلاس والبعض الآخر للدمج، وخسرت المصارف جزءاً كبيراً من رأس مالها وأرباحها وزبائنها داخل السودان وخارجه، حتى ان المصارف العالمية أوقفت تعاملها مع المصارف السودانية خوفاً من العقوبات الأميركية. وأدى ذلك الى انخفاض احتياط البنك المركزي من العملات الأجنبية، وانتعاش السوق السوداء، وتدهور سعر صرف الجنيه السوداني الذي وصل اخيراً الى 8 جنيهات في مقابل الدولار، ويخشى ان يصل الى عشرة جنيهات بنهاية السنة.
وبسبب سيطرة أميركا على المؤسسات المالية الدولية، حرم السودان من القروض والمنح والهبات، مع العلم ان الديون المترتبة عليه بلغت نحو 43 بليون دولار، ولكن ما يلفت هو ان أصل الدَين يبلغ فقط نحو 15 بليوناً، بينما تششكل بقية المبلغ الفوائد المترتبة عليه.
وكنتيجة طبيعية للعجز المستمر في موازنة الدولة بسبب زيادة النفقات على الإيرادات، وكان آخرها موازنة العام الحالي التي تحمل عجزاً يبلغ 12 بليون جنيه، (بين نفقات 58.2 بليون وايرادات 46.2 بليون جنيه)، اضطرت الحكومة الى اعتماد سياسة تقشف وإلغاء الدعم على ثلاث مراحل، كانت الأولى في حزيران (يونيو) 2012، والثانية في أيلول 2013، وستكون الثالثة بنهاية السنة او مطلع عام 2015.
وتبلغ قيمة الدعم نحو 13 بليون جنيه موزعة بين 5 بلايين لدعم المحروقات، و1.5 بليون لدعم القمح، ونحو 6.5 بليون جنيه لدعم السلع الاستراتيجية، ويشكل اكثر من 22 في المئة من نفقات الموازنة. وبذلك أبدى صندوق النقد رضاه عن اداء السلطات السودانية في تنفيذ برنامجها الاقتصادي، وتوقع ان ينمو اقتصاد السودان بنسبة 2.5 في المئة عام 2014، وان يواصل التضخم التراجع الى 18 في المئة، مؤكداً ان الآفاق المستقبلية للاقتصاد لا تزال مؤاتية.
واذا كان رقم التضخم (على رغم ارتفاعه) قريباً من الرقم المستهدف في موازنة العام الحالي، وهو 20.9 في المئة، فان الأرقام الحقيقية والتي تعكس الواقع هي ضعف هذا الرقم، كما أعلن الجهاز المركزي للاحصاء في الخرطوم ان معدل التضخم السنوي ارتفع الى 46.8 في المئة في تموز الماضي، ما يعكس زيادة شهرية نسبتها 10 في المئة على أسعار السلع الاستهلاكية. ويعود السبب في ذلك الى اجراءات التقشف وخطط الحكم لخفض دعم الوقود والخبز والسلع الاستراتيجية، مع التأكيد على ان الأسعار بدأت ترتفع منذ انفصال الجنوب في تموز 2011، ما حرم الخرطوم 46 في المئة من ايرادات الخزينة العامة، و80 في المئة من عائدات النقد الأجنبي الذي يحتاج اليه السودان لدعم الجنيه ودفع فاتورة الاستيراد المتزايدة.
وهكذا يبدو واضحاً ان مشاكل السودان الاقتصادية، بدءاً بالعقوبات الأميركية وتراكم الديون الخارجية وتدهور قيمة الجنيه وافلاس المؤسسات وهروب الاستثمارات، وحتى انفصال الجنوب واستمرار الصراع في بعض المناطق، وتراجع النمو، تعتبر في جوهرها مشاكل سياسية، والبرامج الاقتصادية لا تحلها، ولا بد من تغييرات سياسية في بنية الحكم تؤدي الى وقف الحرب والنزاعات المسلحة، وتسمح بالتداول السلمي الحقيقي للسلطة، وتحقيق علاقات خارجية تعيد السودان الى التفاعل مع التطور الاقتصادي الإقليمي والدولي، والاستفادة من الاستثمارات العربية والاجنبية.