بورزو داراجاهي من أربيل وإريكا سولومون
قال شاب سوري كان يقف منتظراً دوره لإجراء مقابلة للحصول على وظيفة إنه يشعر بالإعجاب حين ينظر إلى مجموعة الكاميرات التي كانت تمثل آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا وأجهزة مونتاج الفيديو النقالة والتنظيم الشامل في مكاتب جهة العمل هذه التي يرجو العمل معها. والراتب ليس بالشيء السيئ، فهو خمسة أضعاف ما يمكن أن يحصل عليه أي موظف سوري مدني عادي.
قال الشاب الذي كان في أواخر العشرينيات من عمره، وعمل سابقاً خياطاً للملابس، عرضوا علي راتباً يبلغ 1500 دولار في الشهر، إضافة إلى سيارة وبيت وكل ما أحتاج إليه من كاميرات. وتابع: “أتذكر أنني كنت أنظر حول المكتب وقد أدهشتني كل التجهيزات الموجودة هناك، وأذكر أنني قلت في نفسي إن من غير الممكن أن يحصل هؤلاء الناس على كل هذا المال بأنفسهم، لا بد أن هناك دولة تقف وراء ذلك”.
كانت جهة العمل التي يتوقع الالتحاق بها، هي دولة الإسلام في بلاد العراق والشام، فرع القاعدة والمعروفة باسم “داعش”، تطمح لأن تصبح دولة، لكن ذلك لم يتحقق بعد. تسيطر هذه المجموعة على ثلث أراضي العراق وربع سورية، لكن لم يتم توظيف هذا الشاب لحمل السلاح. بدلاً من ذلك تم توظيفه للعمل في مكتب الإعلام التابع للمجموعة – وهو من العمليات المرتبطة عادة بالشركات متعددة الجنسيات – في مدينة الرقة السورية، التي أصبحت بحكم الواقع عاصمة المجموعة التي أعلنت عن نفسها أنها خلافة أو دولة إسلامية.
اختار هذا الشاب ألا يأخذ هذه الوظيفة، وقرر في نفسه أن البقاء في سورية خطر جداً. ومع ذلك توضح هذه القصة مستوى الموارد والتمويل المتوافر لهذه المجموعة الإرهابية التي نمت وترعرعت في ظل الصراع السوري، لتصبح فيما بعد منظمة دفعت الرئيس باراك أوباما للقول هذا الشهر إن الولايات المتحدة ملزمة “بتقويضها وفي النهاية تدميرها”.
موارد مالية متعددة
ترى الولايات المتحدة وحلفاؤها أن القضاء على مصدر ذلك الدخل – الذي يقدر بين مليون وخمسة ملايين دولار في اليوم – أمر أساسي لوقف تقدم داعش.
ويسعى محققون غربيون إلى تتبع أرقام حسابات مصرفية في دول الخليج، والبحث عن مانحين للجهاديين في مناطق بعيدة مثل إندونيسيا. وإضافة إلى أساليب شريرة، مثل المطالبة بالفدية وعصابات الابتزاز التابعة لها، تستغل داعش إمكانيات المناطق التي تسيطر عليها للحصول على المال، مثل الطلب من محال البيع بالتجزئة دفع نحو دولارين في الشهر على شكل ضريبة. وبحسب أقوال أحد النشطاء في سورية، تخطط داعش في الأيام المقبلة لطلب دفع رسوم على استهلاك الكهرباء والماء لجني أموال من المناطق الواقعة تحت سيطرتها.
لكن يقول خبراء إنه من أجل تشديد القبضة ومحاصرة تمويل داعش، على الحكومات الغربية وحلفائها في الشرق الأوسط أن ينظروا أولاً إلى شبكة تهريب النفط التي يبلغ عمرها الآن عشر سنوات، والتي تستخدمها المجموعة الآن لتمويل دولتها الناشئة. وتشتمل هذه التجارة غير الرسمية والمربحة على مناطق تقع شمالي العراق وشمال شرقي سورية وجنوبي تركيا وأجزاء من إيران، وهي المناطق التي تكسب منها الجزء الأكبر من أموالها.
وتقول شركة مابلكروفت المختصة في إدارة المخاطر في تقرير نشرته أخيرا، إن داعش تسيطر الآن على ستة من عشرة حقول نفط في سورية، منها مرفق عمر الكبير، وأربعة من الحقول الصغيرة في العراق، منها الحقول الموجودة في العجيل وحمرين.
ولتهريب النفط جذور عميقة في المنطقة، فقد ازدهرت شبكة قوية مكونة من مهربين وتجار ومصافي نفط غير شرعية بعد فرض الأمم المتحدة عقوبات على العراق في مجال الطاقة في تسعينيات القرن الماضي.
وظهر المئات من أصحاب المشاريع الذين يبيعون كميات صغيرة من نفط العراق بأسعار عليها حسومات وينقلونها عبر الحدود التركية لتباع بعد ذلك بأسعار مخفضة. وعمل ذلك على زيادة ثراء وقوة كثير من رجال الأعمال، وجعل لهم مصالح مكتسبة وعلاقات سياسية.
80 ألف برميل نفط يوميا
يقول خبراء في الطاقة ومسؤولون غربيون إن هناك احتمالاً بأن داعش تقوم بعملية غسل (أو بيع غير قانوني) لما يصل إلى 80 ألف برميل من النفط يوميا، تساوي قيمتها عدة ملايين من الدولارات، من خلال هذه الأسواق الخفية. ويتم تهريب النفط من خلال جبال وعرة وممرات صحراوية، أو حتى من خلال معابر قانونية قرب مدن ريحانلي أو زاخو أو بينجوان، للاستهلاك في تركيا وإيران أو الأردن.
وتقول فاليري مارسيل، الخبيرة في شؤون الطاقة في الشرق الأوسط وإفريقيا في مؤسسة الأبحاث اللندنية، تشاثام هاوس: “دفعت حقيقة وضع العراق تحت عقوبات الأمم المتحدة لفترة طويلة بالأكراد ورجال الأعمال العراقيين إلى ملء الفراغ الذي نتج عن ذلك وتكوين شبكة تهريب للنفط العراقي”. وتضيف: “ازداد حجم شبكات التهريب التركية والسورية والعراقية بسبب عقود من الحظر على الصادرات. توجد مثل هذه السوق الموازية في العراق والآن في سورية. وقد أصبح ذلك مشكلة هائلة”.
مفارقات كردية
وعادة ما يتم تكرير النفط المباع في السوق السوداء في معامل في كردستان العراق، وهي معامل نشأت، جزئيا، بسبب التوترات بين قادة الأكراد وبغداد. وفي السنوات الأخيرة أدارت حكومة إقليم كردستان وجهها عن بغداد بعد ظهور مصافي نفط تورد للسوق المحلية في كردستان، بعد أن منعت بغداد سلطات الإقليم من تصدير المنتجات النفطية دون موافقتها.
ويعني هذا أن الأكراد أصبحوا يضعون نظرياً أموالاً في خزائن المجموعات الجهادية التي تقاتلها قوات البشمركة التابعة لهم. يقول بلال وهاب، خبير الطاقة في الجامعة الأمريكية في السليمانية: “أصبح لداعش الآن القدرة على بيع النفط الخام (من خلال وسطاء) إلى هذه المصافي غير الشرعية. كذلك حكومة إقليم كردستان غير راغبة في إغلاق هذه المصافي، لأنه سيكون عليها عند ذلك رفع أسعار البنزين. وهي لن تتمكن من رفع سعر البنزين، لأنها لا تتمكن من دفع الرواتب، وهي لا تتمكن من دفع الرواتب لأن الحكومة المركزية (في بغداد) لم تقدم لحكومة الإقليم استحقاقاتها من الميزانية منذ ثمانية أشهر. نعم هذا أمر غير قانوني، وهو أمر سيئ، لكن هذا هو ما يساعد على دوران عجلات الاقتصاد”.
ويقبل المسؤولون الدوليون بحقيقة أن الجزء الأكبر من أموال داعش يجمع داخل المناطق الواسعة التي تسيطر عليها داعش في العراق وسورية. وقال جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي في وقت سابق هذا الشهر: “إنهم يضخون النفط ويبيعونه لتمويل تكتيكاتهم الوحشية، إضافة لأعمال الخطف والسرقة والابتزاز والدعم الخارجي الذي يتلقونه”. وعندما وجه له سؤال حول ما إذا كانت الإدارة تنظر في قصف حقول النفط والمصافي التي تسيطر عليها داعش، أجاب: “لم أسمع أي اعتراض على ذلك”.
جغرافيا المهربين
ولم يكن من السهل أبداً حفظ الأمن على أغلب حدود مناطق السوق السوداء الكردية، التي من النادر أن يعترف بها الناس الذين لهم قرابات أو روابط تجارية عبر هذه الحدود. وتراوح تضاريس هذه الأراضي ما بين سهول عشبية تفصل تركيا عن شمال شرقي سورية، إلى جبال موحشة بين أكراد العراق وجيرانهم الأكراد الإيرانيين من جهة، والأراضي المنبسطة الممتدة على الحدود العراقية والسورية الأردنية من جهة أخرى.
والتهريب يقوي حكومة إقليم كردستان شبه المستقلة ذات الأقاليم الثلاثة، التي تنتشر على طول حدودها مع إيران وسورية وتركيا ممرات تهريب ضيقة. ويمكنك أن تجد في القرى الواقعة على طول الحدود الإيرانية العراقية، مثل قرية حاجي عمران، مهربين يروون حكايات مسلية عن إنجازاتهم العظيمة.
ويحذر المسؤولون العراقيون الأكراد من أنه لا توجد لديهم سوى إمكانيات محدودة لتسيير دوريات لحراسة التجارة – يشتركون مع داعش في حدود طولها 1000 كيلو متر – ويشتكون من نقص الأموال منذ أن بدأت بغداد ترفض إرسال عائدات لميزانية المنطقة، وهذا مثال آخر على الفائدة التي تعود على داعش نتيجة الانقسام السياسي العراقي.
يقول شيركو جودت مصطفى، العضو في برلمان إقليم كردستان: “تفعل الحكومة الكردية كل ما بوسعها للسيطرة على الحدود، لكن الكساد يسيطر على كل مؤسسات وأجهزة كردستان”.
رشا وفساد
ويغلب على ظن المسؤولين أن حرس الحدود في العراق وإيران وسورية وتركيا يتلقون رشا للسماح بمرور الشحنات عبر الحدود. تقول مارسيل إن ذلك أشبه بكارتل المخدرات والمنظمات الإجرامية التي تستفيد أيضاً من الدعم الرسمي، أو أولئك الموجودين في السلطة من الذين يغمضون أعينهم عما يجري. وتضيف: “لم يكن ليوجد على مثل هذا النطاق الموجود حالياً دون تورط أو استفادة بعض العاملين في الجيش ورجال الجمارك”.
ويقع العراق من حيث الفساد الرسمي الملموس في المرتبة 171 من بين 177 دولة حسب تصنيف منظمة الشفافية الدولية لعام 2013. وغالباً ما يغمض أفراد الأجهزة الأمنية أعينهم مقابل دفعة من المال.
ويقول وهاب: “يذهب الكثير من المال إلى رجال يعملون على نقاط تفتيش، ولذلك علينا فرض المحاسبة على هذه النقاط وإيجاد طرق لإبعادهم عن أخذ الرشا”.
وقال أحد المسؤولين الأتراك أخيرا إن الكميات المحتجزة من الوقود المهرب ارتفعت من 35260 طنا إلى أكثر من 50 ألف طن في الأشهر الستة الأولى وحدها من عام 2014. لكن يبدو أن السوق تغيرت في الأسابيع الأخيرة نتيجة لتشديد السيطرة التركية على الحدود.
ويجرى تنفيذ الكثير من هذه التجارة داخل المناطق التي تسيطر عليها داعش، وهو الأمر الذي يزيد من صعوبة الحد من هذه التجارة. يقول عثمان السلطان، وهو أحد النشطاء في مدينة دير الزور السورية: “أغلب التجار الآن عراقيون وهم يأتون لشراء النفط الخام ثم يعودون لبيعه داخل العراق. الخام السوري رخيص، وهم يستخدمونه في المولدات الكهربائية والمصانع في العراق”.
وسعت داعش منذ أن أسست لنفسها وجوداً ملموساً داخل الصراع السوري إلى وقف اعتمادها على المانحين الدوليين أثناء الجهود التي بذلتها لتشكيل اقتصاد يتميز بالاكتفاء الذاتي. وشكل هذا التوجه جزءاً من خلافات حول ما إذا كان يجب جمع الأموال من مصادر محلية أو دولية، وهو الذي سبب الاحتكاك مع مجموعات ثورية سورية أخرى، منها جبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة.
حصار مالي
يشير محللون إلى أن ملاحقة أرقام الحسابات أو القبض على الداعمين الدوليين لن يكون له أثر يذكر على تمويل هذه المجموعة التي تتعامل حصرياً تقريباً بالنقد. وأغلب الداعمين الخليجيين الساعين للإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد أصبحوا الآن يتجنبون هذه المجموعة.
وقال تقرير مابلكروفت: “بالنظر إلى سعي دولة الإسلام للتقليل من اعتمادها على نظام المصارف العالمي، أصبحت أقل عرضة لحجز الأموال أو للعقوبات المالية الدولية”.
إضافة إلى ذلك، يعتقد أن المجموعة وزعت أموالها عبر مساحة جغرافية واسعة. يقول هشام هاشمي، وهو حجة حول المقاتلين السنة في بغداد: “لن توثر عمليات وقف التهريب في دولة الإسلام في المدى القريب. لديهم من الأموال النقدية ما يكفي لاستمرارهم بشكل جيد مدة سنتين”.
لكن يوجد احتمال في أن تؤدي الطموحات الزائدة لداعش ورفضها التنازل إلى سقوط إمبراطورتها المالية. كما أن مزاعمها بأن لها صفة الدولة أجبرتها على محاولة السيطرة على كل العملية وقطع الطريق على الوسطاء الماليين. وتوجد أيضاً علامات على تراكم الزخم الدولي تجاه كبح جماح السوق السوداء في تجارة النفط. فقد أعلنت كل من حكومتي تركيا وكردستان العراق عن بذل جهود لحظر هذه السوق. ويقول أحد النشطاء إن أسعار النفط الخام في سورية ارتفعت من 25 إلى 41 دولاراً للبرميل، الأمر الذي يشير إلى نقصان الإنتاج بعد الحظر المفاجئ لهذه التجارة الذي فرضته تركيا على حدودها.
وفي الآونة الأخيرة اشتكى مقيمون في قرية حاجي باشا التركية القريبة من الحدود السورية، من الجهود التي تبذل لوقف العبور غير القانوني للحدود الذي يوفر مصدر رزق لكثيرين من الأتراك. وإذا استأنفت الحكومة التي تشكلت حديثاً في بغداد برئاسة حيدر العبادي دفع الأموال المتأخرة لميزانية كردستان، فسيكون ذلك حافزاً إضافياً للأكراد لاتخاذ إجراءات للحد من مصافي النفط المهرب التي تشتري النفط من السوق السوداء.
وتقول مارسيل: “تحاول داعش توصيل منتجات النفط إلى أقرب نقطة من المستهلك النهائي للحصول على المزيد من الأرباح. من خلال ذلك يمكن على الأرجح أن يصبح من السهل استهداف أموال داعش، بدلا من استهداف منظومة مكونة من الوسطاء الصغار من الذين يتعاملون مع أحجام صغيرة من النفط، والذين يتنقلون ببطء حول كل الأراضي التي يعملون فيها”.