استثمارات القطاع الخاص
نشرت المفوضية الأوروبية تقريرها السادس بشأن التماسك الاقتصادي والاجتماعي والإقليمي (وهو المصطلح الذي يمكن ترجمته تقريبياً بالمساواة والشمول).
يضع التقرير خطة لاستثمارات كبيرة، 450 مليار يورو (583 مليار دولار أميركي) من ثلاثة صناديق في الاتحاد الأوروبي للفترة من 2014 إلى 2020.
ونظراً للظروف الاقتصادية والمالية العصيبة اليوم، حيث من المرجح أن تستبعد استثمارات القطاع العام من الميزانيات الوطنية، فإن هذا البرنامج يمثل التزاماً رئيسياً لاستثمارات القطاع الخاص الداعمة للنمو.
الواقع أن إستراتيجية تماسك الاتحاد الأوروبي ذكية ومثيرة للإعجاب. ففي حين كانت مثل هذه الاستثمارات تميل بشدة في الماضي نحو البنية الأساسية المادية -وخاصة النقل- فإن الأجندة تحولت الآن إلى مجموعة أكثر توازناً من الأهداف، بما في ذلك رأس المال البشري، وتشغيل العمالة، والقاعدة المعرفية والتكنولوجية للاقتصاد، وتكنولوجيا المعلومات، والنمو المنخفض الكربون، والحوكمة.
وبوسع المرء أن يسأل رغم هذا، ما هو المردود الاقتصادي والاجتماعي لهذه الاستثمارات؟
صحيح أن معدلات النمو العالية المستدامة تتطلب دعم مستويات عالية من الاستثمارات العامة، وهو ما من شأنه أن يزيد من العائد (وبالتالي مستويات) الاستثمار الخاص، وبالتالي زيادة الناتج ومعدلات تشغيل العمالة. لكن الاستثمار العام مجرد عنصر واحد في إستراتيجيات النمو الناجحة. وسوف تفضي هذه الاستثمارات إلى بعض النفع في مختلف السيناريوهات، ولكن تأثيرها سوف يكون أكبر كثيراً خارج نطاق الأمد القريب إذا أزيلت قيود أخرى معوقة.
وتبدو ثلاث قضاياً تكميلية في غاية الأهمية. الأولى تتعلق في الأساس بنطاق صلاحيات البنك المركزي الأوروبي، وتتضمن استقرار الأسعار وقيمة اليورو. والثانية هي القضية المالية، أما الثالثة فهي القضية البنيوية.
خطر الانكماش
الواقع أن معدلات التضخم، التي أصبحت الآن أقل كثيراً من هدف البنك المركزي الأوروبي بنسبة 2% سنويا، أصبحت في منطقة الخطر الانكماشية. ولأن الانكماش يدفع العبء الحقيقي المتمثل في الديون السيادية والالتزامات العامة غير الديون -مثل أنظمة معاشات التقاعد- إلى الارتفاع، فإن ظهوره كفيل بقتل النمو وتقويض وضع الموارد المالية العامة الهش في العديد من البلدان.
في بيئة ما بعد الأزمة التي تتسم بسياسة نقدية غير تقليدية في بلدان أخرى متقدمة، أفضت سياسات البنك المركزي الأوروبي الأقل قوة -نظراً لصلاحياته الأكثر تقييدا- إلى سعر الصرف الذي تسبب في الإضرار بالقدرة التنافسية والنمو المحتمل في القطاعات القابلة للتداول في العديد من بلدان منطقة اليورو.
وهذا أمر بالغ الأهمية لأن أغلب الاقتصادات شهدت أنماط نمو في مرحلة ما قبل الأزمة اتسمت بمستويات عالية غير قابلة للاستمرار من الطلب الكلي المحلي. ومن هنا فإن إعادة التوازن تتطلب التحول باتجاه القطاع القابل للتداول والطلب الخارجي. وسوف يكون اليورو الضعيف عاملاً مفيداً هنا.
الواقع أن البنك المركزي الأوروبي يدرك هذا، وهو يعمل من دون إعلان موقف صريح على توسيع برامج شراء الأصول لرفع مستوى التضخم وخفض قيمة اليورو.
وكان رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي واضحاً عندما أعلن أن استعادة هدف التضخم وإضعاف قيمة العملة ليست إستراتيجية نمو. فهناك إصلاحات صعبة مطلوبة لترتيب الأوضاع المالية في العديد من الاقتصادات الوطنية وزيادة مرونتها البنيوية. ولا يستطيع البنك المركزي الأوروبي أن يفعل هذا منفردا.
وعلى الجانب المالي سنجد أن مستويات الديون السيادية مرتفعة للغاية ولا تزال في ارتفاع. ولكن التحدي الأكبر يتمثل في الالتزامات الخاصة بصناديق التقاعد وأنظمة الضمان الاجتماعي، والتي تشير التقديرات إلى أنها تبلغ أربعة أمثال حجم الديون السيادية أو أكثر. ومن الضروري بشكل واضح تنفيذ خطط ذات مصداقية لوقف نمو هذه الالتزامات.
ولكن لا بد أيضاً من خفض هذه الالتزامات، لأنها تفرض بالفعل عبئاً مالياً ساحقاً، وهو ما يرجع -إلى حد كبير- إلى الشيخوخة السكانية السريعة، حيث يعمل ارتفاع متوسط العمر المتوقع أيضاً كمساهم رئيسي.
وتعاني الولايات المتحدة من مشكلة مماثلة، ولو أنها أكثر بعدا. ويشير تحليل حديث للولايات المتحدة إلى أن التزامات برامج الاستحقاقات سوف تضرب الموازنة العمومية في غضون عشر سنوات تقريبا. وعلى النقيض من هذا، في إيطاليا على سبيل المثال، حيث التركيبة السكانية أقل إيجابية، بدأ ذلك التأثير بالفعل.
والنمو كفيل بتقليص هذا العبء، ولكن النمو في الأمدين القريب والمتوسط عامر بالمشاكل. والتضخم من شأنه أن يخفض القيمة الحقيقية لكل من الدين والالتزامات الأخرى خارج الديون. ولكن حتى التضخم الموجه إلى مستويات أعلى تحت السيطرة كان مستبعدا، ومرة أخرى يكمن الخطر الحالي في الانكماش.
وبوسع الحكومات أن ترفع الضرائب لتغطية جزء كبير من النفقات اللازمة. ولكن من غير المرجح أن يكون هذا مفيداً في دعم النمو، فهو يفرض عبئاً على قوة العمل والشباب الذين يحاولون دخول قوة العمل.
وعلى نحو مماثل، لن يسفر إصدار المزيد من الدين لتغطية جزء من الالتزامات المقبلة إلا عن تحويل تركيبة الالتزامات من دون تقليصها.
ويتلخص البديل الوحيد الأخر في الخفض المباشر. وبالنسبة للديون السيادية، يعني هذا التخلف عن السداد، وهو ما لن يحدث إلا في الظروف القصوى، وبالنسبة للالتزامات غير المرتبطة بالديون فإن هذا يعني تغيير المعالم الجهازية -على سبيل المثال، زيادة سن التقاعد- وهو أمر مثير للجدل ويصعب تنفيذه سياسياً إلى حد غير عادي.
المرونة البنيوية
والعنصر الثالث المفقود هو المرونة البنيوية، والتي تشكل ضرورة أساسية لسببين. الأول أن أغلب الاقتصادات المتقدمة حافظت على أنماط نمو غير متوازنة والتي أدت إلى اندلاع الأزمة العالمية في عام 2008. واستعادة النمو تتطلب تغييرات بنيوية. في الولايات المتحدة وبرغم أن النمو يظل أقل كثيراً من إمكاناته الحقيقية، فإن البيانات تشير إلى أن نحو نصف التعافي في النمو كان راجعاً إلى التحول الذي طرأ على رأس المال والعمل باتجاه الجانب القابل للتداول من الاقتصاد، فضلاً عن الدفعة القوية التي وفرها الغاز الصخري. وهذا إما أنه لا يحدث أو يحدث بوتيرة بطيئة للغاية في اقتصادات جنوب أوروبا، حيث يحتاج الجمود البنيوي في أسواق العمل والخدمات إلى إعادة نظر. وتُعَد إسبانيا الاستثناء الوحيد هنا، بعد أن أطلقت إصلاحات سوق العمل في أواخر عام 2012. ولعل زخم الإصلاح يتزايد في بلدان أخرى عندما يصبح تأثير هذه الإصلاحات أكثر وضوحا.
والثاني أنه حتى في غياب اختلالات التوازن المرتبطة بالأزمة، تشكل المرونة البنيوية في كل الاقتصادات ضرورة أساسية للتكيف مع التحولات الناجمة عن العولمة والتحولات التكنولوجية الموفرة للعمالة والمنحازة لمهارات بعينها والتي ترتبط بالقيمة المتزايدة لرأس المال الرقمي. ففي السنوات الثلاثين الماضية، أضاف الاقتصاد العالمي 1.5 مليار عامل جديد في البلدان النامية، مع وصول ثلاثة مليارات مستهلك جديد في المستقبل المنظور.
لقد أزالت التكنولوجيا الرقمية الملايين من الوظائف العمالية والمكتبية الروتينية، ونحن ندخل بسرعة إلى عالم التوظيف على أساس إدراكي معرفي. وإذا كان للاستثمار في رأس المال البشري أن يلاحق التركيبة المتغيرة للعمالة فإن الاحتياج إلى المرونة البنيوية يصبح واضحاً جليا.إن أوروبا لديها فرصة حقيقية لإتمام صفقة رابحة: حيث تنفذ البلدان الأعضاء إصلاحات مالية وبنيوية في مقابل تخفيف القيود المالية في الأمد القريب ليس لزيادة الالتزامات، بل بهدف التركيز على الاستثمارات الداعمة للنمو لتحفيز ودفع عجلة التعافي المستدام. وسوف يتنبه مستثمرو القطاع الخاص إلى هذه الفرصة، وهو ما من شأنه أن يعجل بوتيرة عملية التعافي. والآن يكمن التحدي في اغتنام الفرصة.
مايكل سبنس حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ الاقتصاد في كلية شتيرين لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك، وكبير زملاء مؤسسة هووفر. وأحدث مؤلفاته كتاب “التقارب التالي: مستقبل النمو الاقتصادي في عالم متعدد السرعات”.