بروفسور غريتا صعب
شَنّت الولايات المتحدة الأميركية ثلاث جولات لم يسبق لها مثيل من التيسير الكمّي أدّت الى توسيع هائل في الميزانية العمومية للاحتياطي الفيديرالي بنسبة ثلاثة أضعاف تقريباً، وهذا خلال ثلاث سنوات فقط. اليوم، الولايات المتحدة الأميركية على عتبة الانتهاء من هذه العملية غير التقليدية (من المنتظر أن تنتهي في تشرين الأول القادم)، لذا كان لا بدّ من مراجعة آثار هذه السياسة النقدية غير التقليدية، لا سيما وأنّ فوائدها على العديد من الدول، كإنكلترا واليابان، باتت مثيرة للجدل.
لذلك جاءت آثارها مختلفة على الدول المتقدمة من ناحية، وعلى الاقتصادات الناشئة من ناحية اخرى. وإذا كان من الطبيعي أن تكون آثار هذه السياسات النقدية التوسيعية استقرار الأسواق المالية، جاءت آثارها، وعلى ما يبدو، سلبية على الاقتصادات الناشئة، لا سيما من ناحية تَدفّقات رأس المال واسعار الصرف واسعار الأصول.
والسؤال الأول الذي يتبادر الى الأذهان: هل ساعدَ هذا التيسير الكمّي في تحسين الاقتصاد الاميركي أولاً؟ واذا ما كانت السيدة يلين رئيسة الفيديرالي الاميركي لها رأيها الخاص بشأن هذا الموضوع، فإنّ الأبحاث العلمية كشفت عن انّ عمليات التيسير الكمي المتتالية عملت في بعض الأحيان، وكانت غير فعّالة في كثير من الاحيان.
واليوم، نرى انه وبعد ثلاث عمليات متتالية من التيسير الكمي ضُخّ خلالها حوالى 4 تريليون دولار، فإنّ الامور لم تتحسّن كما كان منتظراً، علماً انّ الفيديرالي الاميركي صرّحَ انّ الظروف الاقتصادية أصبحت ملائمة للانتهاء من هذه العملية. ومن وجهة النظر الاقتصادية فإنّ اوّل عملية تيسير كَمّي جاءت جيدة وكبيرة بما فيه الكفاية، واستمرّت لفترة طويلة، وساعدت على ما يبدو في تثبيت الوضع الاقتصادي ومَنعه من الانحدار اكثر.
امّا العمليات المتلاحقة فلم يكن لها المفعول نفسه، ولم تزد الكثير على الناتج (جاءت الزيادة بنسبة 0,13% من الناتج المحلي فقط). ولا بدّ هنا من القول انّ تأثير هذه الجولات المتتالية لا بدّ أن تكون، ليس فقط على الاقتصاد الاميركي فقط، إذ انّ طباعة النقود في أكبر اقتصاد في العالم لا بدّ وأن تؤثر على الاقتصاديات العالمية.
وللإشارة هنا فإنّ دراسة لعدد من الاقتصاديين في البنك المركزي الأوروبي لمفاعيل QE1 و QE2 على 20 دولة ذات سيادة، رأوا انّ «هنالك آثار فعلية من هذه السياسة النقدية على الاقتصادات المتقدمة»، ورأوا انه بينما QE1 دفعت المستثمرين الى ضَخّ الأموال في الولايات المتحدة الأميركية، دفعت QE2 المستثمرين الى ضَخّ الاموال خارجها، ولا سيما في الاقتصادات الناشئة.
والجدير ذكره انّ أثر التيسير الكمي في أوروبا واليابان والولايات المتحدة يختلف كثيراً، وهذا ما أثبته حكّام المصارف المركزية، اذ انهم قدموا نظرة على أنّ الأداة نفسها يمكن تحويلها واستخدامها في طرق مختلفة ومن اجل حل مشاكل مختلفة. وهذا بالفعل ما أظهره ماريو دراغي رئيس المصرف المركزي الاوروبي ومحافظ بنك اليابان عندما تحدثا عن التيسير الكمي لحلّ مشاكل مختلفة الى حد كبير.
امّا يلين فقد تحدثت عن الـ QE وزيادة أسعار الفوائد وعدم الاعتماد بعد اليوم على التيسير الكمي. والعامل الوحيد بينهم يبقى سوق العمل، فـ Kuroda يحاول مكافحة الانكماش، والبنك المركزي الاوروبي يحاول مكافحة البطالة المتفاوتة بنسَبها بين أعضاء الاتحاد الاوروبي (بلدان الجنوب تعاني أكثر من ألمانيا وبلدان الشمال). لذلك، نراهم يحاولون السّير بالتيسير الكمّي سبيلاً لحلّ مشاكل مختلفة، علماً انّ سوق العمل في أميركا، وعلى رغم تحسّنه النسبي، لم ينتعش فعلياً من الركود.
اذ إنه، وحسب يلين، يعاني اليوم تغيرات مستمرة في أدائه. و Kuroda يحاول من خلال سياسته تحفيز التضخّم وزيادة الأجور لمواجهة ركود الاقتصاد، ويحاول أيضاً تشجيع الإنفاق سواء من جانب الشركات أو من جانب المستهلكين.
امّا دراغي فيخوض معركة مختلفة تماماً، اذ انه يسعى، وبالأحرى يحاول إقناع الدول الأوروبية لبَذل جهود متضافرة لمكافحة تباطؤ التضخم في منطقة اليورو. وما قاله دراغي ليس سوى تحليل طبيعي، اذ انّ البطالة في منطقة اليورو ارتفعت مرتين: المرة الاولى ردّاً على الأزمة المالية العالمية، والصدمة الثانية ناشئة عن ازمة الديون السيادية، والتي أنتجت تراجعاً لستة أرباع متتالية في منطقة اليورو.
والواضح لغايته انه، ولخمس سنوات متتالية، تمكنت أميركا ومعها إنكلترا من الخروج من الركود الاقتصادي وإنعاش سوق العمل ولَو نسبياً، بينما لم تستطع اليابان، لغاية الآن من الوصول الى نتائج مماثلة وكذلك أوروبا، والتي إذا ما بقيت على هذا النمو، قد تسير على خط اليابان، لا سيما من ناحية انخفاض التضخمّ، كذلك من ناحية المستثمرين والشركات والمستهلكين الذين سوف يسعون الى اكتناز الأموال ووَقف الإنفاق متوقّعين انخفاضاً اكبر في الأسعار.
لذلك، نرى الفيديرالي الأميركي في حالة status quo، لا سيما بعد ان صرّحت يلين انّ قرار اللجنة برَفع أسعار الفوائد، بعد انتهاء عملية التيسير الكمّي في تشرين الاول، رَهن بتقييم العملية الاقتصادية والأوضاع في حينها من حيث البطالة والنمو وتحرّك سوق العمل. لذلك، قد لا يعتمد الفيديرالي الأميركي على جدول زمني محدد.
وهذا الوقت المحدد قد يكون مبهماً وغير واضح، ولكن التوقعات تشير، وحسب الفيديرالي الأميركي، الى انّ أسعار الفوائد سوف ترتفع وباطّراد في السنوات المقبلة». وحسب الاحتياط الفيديرالي فإنّ أسعار الفوائد (overnight) في نهاية العام المقبل سوف ترتفع الى 1,375% ومتوسط التوقعات للعام 2016 قد تصِل الى 2,88% بعد 2,56%.
لذلك، وفي الحالة هذه يبقى أمر أسعار الفوائد غير واضح ومبنيّ على توقعات هي معظمها نحو الارتفاع بعد انقضاء خمس سنوات من الركود. وتبقى المناقشة مفتوحة، وبالأصَحّ، منقسمة حول الوقت الأمثل لإيجاد توازن بين أسعار الفائدة مع اعتبارات اقتصادية اخرى، بما في ذلك التضخم والاستقرار المالي وظروف سوق العمل.
وحسبLiz Ann Sonders، رئيسة الاستثمارات في تشارلز شواب، فإنّ «مجلس الاحتياط الفيدرالي يتجه نحو التطبيع وقد يُنهي عملية التيسير الكمي الشهر المقبل ويتجه نحو رفع الأسعار في منتصف العام المقبل. وحسب David Kelly في JP Morgan funds فإنّ المشكلة تكمن في كون الفيديرالي يحاول إجراء عملية هبوط هادئة.
لذلك، قد تكون المرحلة الاولى، وهي الجزء السهل من العملية أوشكت على الاكتمال، وهذا ما خطط له سلفها برنانكي. امّا الآن وبعد سنة من ولايتها، جاء دور Yellen في رسم الطريق الى الامام ،علماً انّ قدرة الاحتياطي الفيديرالي على تحسين الظروف الاقتصادية تقترب من خط النهاية.
ولكن، وعلى ما يبدو، وبعد ان قدّمت جانيت يلين عرضاً أجابت فيه عن بعض التساؤلات حول أسواق العمل، رأى بعض المحللين انّ ذلك يزيد الشكوك حول ما يمكن أن يفعله مجلس الاحتياطي الفيديرالي.
لذلك، قد تكون هذه الفترة والأشهر القليلة المقبلة فترة غير عادية الوضوح حول سياسة مجلس الاحتياطي الفيديرالي. فوَجبَ القول انّ كلام يلين بات غير دقيق عندما قالت: «نحن نبذل قصارى جهدنا»، وفترة الترقّب قد تكون غير طويلة، ولن تكون مرتبطة بالظروف الاقتصادية. وحالة الـ status quo هذه ليست سوى مرحلة أو بالأحرى هدنة من اجل التوصّل الى مقاربة بين انتهاء التيسير الكمي وعملية رفع أسعار الفوائد.