رائد الخطيب
قبلَ أسبوعين، كان مؤتمر الطاقة في شرق البحر المتوسط في اليرزة، مناسبةً لالقاء اللوم مجددا على الدولة بسبب تلكؤها في إقرار المرسومين التطبيقيين المتعلقين بالنفط في مجلس الوزراء، وتأجيل المناقصات المتعلقة بعمليات الاكتشاف والتنقيب، وهو ما يمنح دول الجوار نقطة تقدم على لبنان اكتشافاً وسعراً وانتاجاً. يضاف الى ذلك نقطة فائقة الاهمية وتتلخص في ايجاد أسواق لما سيتم انتاجه مستقبلا.
يضيء مؤسس ورئيس سابق للمركز العربي للبحوث النفطية، نيكولا سركيس في دراسة بالفرنسية حصلت عليها «المستقبل»، الضوء على «سياسة النفط والغاز في لبنان – الشوائب الكارثية»، يحذرُ فيها من احتمال ان تتحول عملية انتاج النفط والغاز في لبنان من نعمة الى نقمة، والى بلوغ آثار كارثية تشبه الى حد ما الحالة المسماة اقتصاديا maladie hollandaise والتي تتلخص بـ: تضخم مالي، فساد، تراجع في القطاعات الاقتصادية التقليدية.
يؤكد سركيس في دراسته أن الرسوم الخاصة بنظام الإمتياز بمعدلات متدنية وهابطة جدا نسبة الى القوانين العالمية، من شأنها أن تكبد لبنان خسارة لا تقل عن 14 مليار دولار، في اتفاقات النفط والغاز الممتدة الى 25 عاماً، داعيا الى مراجعة كاملة للسياسة النفطية، والى انشاء شركة نفط وطنية.
ماذا تقول دراسة سركيس؟
تقول الدراسة انه من بين كافة الأنظمة المتبعة في العالم في عمليات استثمار مواد الهيدروكاربور، اختار اصحاب السلطة في لبنان آلية تمزج بين نظامي الإمتياز وتقاسم الانتاج المعروف بـ PSA. وتشير الى ان لبنان مزج بين هذين النظامين واهمل نظام عقود الخدمات، وهو الذي يفرض وجود جسم متكامل على رأس المشروع يحدد بدقة دور المشغل ويختار عن طريق الكفاءة المقاولين وموردي الخدمات المتخصصين، من الأجانب او المواطنين بحسب حاجته.
وترى الدراسة ان المزج بين نظامي الامتياز والـ PSA، كان يمكن ان يكون جيدا لو جمع مميزات النظامين الأساسية واستبعد الشوائب الخاصة بهما.
كما تشير الى ان مشرًعي أول مرسومين متعلقين بعملية استثمار النفط أفرغوا من مادتهم مميزات هذين المرسومين اللذيم لم تتم المصادقة عليهما بعد، وذلك عبر:
الرسوم الخاصة بنظام الإمتياز بمعدلات متدنية وبشكل مسيء جدا نسبة الى القوانين العالمية.
اشتراك الدولة الفعال في العمليات الصناعية الخاصة بنظام تقاسم الانتاج.
خسارة لبنان
وتشير الدرسة الى ان واضعي احد المرسومين حددوا معدل الدولة في الأرباح بين 5 في المئة و12 في المئة فقط بالنسبة الى حجم الانتاج، علما ان النظام المعروف والمطبق عموما في الصناعات النفطية والغازية هو نظام الحق برسم محدد بـ 12,15 في المئة، على الأقل من القيمة المدفوعة للمشغل في البلد المضيف.
كذلك، فان ما يدعو للدهشة ايضا، بحسب الدراسة، هو أن الرسوم المحددة بالنسبة لقطاع الغاز الطبيعي هي الأكثر انخفاضا في العالم وهي تقتصر على 4 في المئة فقط. ولذا تقول الدراسة: «نظرا الى ما تقدم، يتبين أن هذا الهامش الواسع من الحسم والتنازلات غير المبررة مقارنة مع ما هو معمول به في الأنظمة العالمية المماثلة، يترجم بالنسبة الى لبنان بخسارة سنوية تساوي 238 مليون دولار بالنسبة لقطاع الغاز الطبيعي وبخسارة تعادل 325 مليون دولار بالنسبة لقطاع النفط. وبالتالي فإن الاتفاقات الممتدة الى خمسة وعشرين عاما تؤدي الى خسارة تقارب 14 مليار دولار، وهو رقم تقريبي وقد يكون الأثر أكبر واكثر أهمية».
ورأت الدراسة ان «تضحية» لبنان وتحديدها هذه الرسوم انطلق من رؤيتها بوجوب لفت انتباه الشركات المستثمرة على اعتبار انها تواجه مخاطر جمة نسبة الى طبيعة الأرض والأعماق، هو «امر غير مبرر»، مشيرة الى ما يلي:
– من المستغرب أن تكون طبيعة الأرض والأعماق لدينا مختلفة عن الطبيعة الجيولوجية لجيراننا، وألا تكون هناك مخاطر سوى في لبنان.
-لقد كان لبنان من الدول النادرة التي جذبت مناقصات واتفاقيات للانتاج والاستثمار لنحو 70 في المئة من المنطقة البحرية وهذا كان مشجعا.
-تجدر الملاحظة أنه لدى قبرص واسرائيل، اظهرت مشاريع التنقيب اكتشافات مهمة لمناطق نفطية جديدة قد تكون متلازمة مع الشاطئ اللبناني.
– وفي ما يتعلق بالمخاطر السياسية، وأيا تكن هذه المخاطر، فإننا لا نعتبر العراق الذي يعاني من مخاطر سياسية كبيرة، يقوم رغم ذلك باستثمار النفط، كما في السودان وليبيا حيث المشاريع النفطية تتواصل بشكل طبيعي.
العائدات
وتحدثت الدراسة عن «وجود أيد خفية تسلط الضوء على عائدات النفط التي يمكن أن تدعم اقتصادنا الوطني»، وتقول انه «أصبح لدى غالبية اللبنانيين وهم كبير جعلهم يعتقدون بان إقرار المرسومين سيجعل البحر المتوسط يفيض بالأموال المتأمل تحصيلها». واذ اشارت الى شكوك عدة في هذا المجال، طالبت بنقاش شفاف حول الموضوع في مجلس النواب و«الا، فإن الأحلام المتوقع تحقيقها من النفط والغاز ستصبح كوابيس تسمى تضخما ماليا، تبديدا لثروة وطنية مهمة، تزايدا للضغوط الاجتماعية السياسية وغيرها».
اضافت «ان المجالات المفتوحة للنقاش يجب ان تتمحور حول الحجم المتوقع للاحتياط والانتاج، كذلك ايضا حول التدفق المالي المنتظر ومساهمته في تسوية الدين الخارجي، وفي مواجهة البطالة وهجرة الشباب، وأخيرا في عملية إنعاش الاقتصاد الوطني. وما هو مهم وخاص هو وجهة استعمال العائدات الممكنة والمتوقعة والتي ممكن ان تصل ارقامها الى العشرات او المئات من مليارات الدولارات في العقد المقبل، والنقاش يجب ان يتناول كيفية الاحتفاظ للاجيال المقبلة بالفرصة القائمة على قاعدة السيادة المالية، كما على وجود الشخص او الجسم الخالي من الشكوك القادر على ادارة هذه الأموال».
ورأى سركيس في دراسته، انه قبل ان نطرح التساؤلات حول وضع عائدات النفط والغاز (وليس قبل مرور عشرات السنين) تحت وصاية سلطة مالية معينة ام لا، يتوجب اولا تحديد الإطار الاداري القانوني والمالي الواجب تطبيقه. بمعنى اخر، تحديد قواعد العمل الطبيعي لتحقيق العائدات الاكثر ارتفاعا بكل الامكانات المتاحة، مع الأخذ في الاعتبار ما تقوم به الدول الأخرى، وضمان الحوافز التي تجذب الشركات على الاستثمار في لبنان وان تكون الارباح مطابقة للأنظمة العالمية.
وتحدثت الدراسة عن «شوائب كبيرة، للسياستين النفطية والتشريعية في لبنان أهمها:
ـالطبيعة المحددة لنظام الاستثمار في القانون الاساسي الرقم 132 الصادر في 24 اب 2010 والقاضي باستثمار ثروات الهيدروكاربور، اضافة الى مرسومي التنفيذ اللذين لم يصادق عليهما بعد.
ـ معدلات الرسوم والضرائب.
ـ الشفافية واحترام مبدأ فصل السلطات، وتوزيع المسؤوليات بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.
خلاصة
وخلصت الدراسة الى الاشارة الى ان «التحدي الأكبر في منطقتنا يبقى ضرورة إيجاد مصادر جديدة للطاقة، غير ان الصعوبات تكمن في كون الأسعار متجهة صعودا وليس العكس. والواقع أن لبنان تأخر نسبة الى قبرص واسرائيل في استثمار مناطقه البحرية وهو أمر يدعو للأسف، لكنه ليس كارثيا إذ ما زال بالامكان تحسين هذا الوضع.. إن مصادر الطاقة محدودة بينما الاستهلاك عكس ذلك تماما، إذ لا شك أن الأجيال المقبلة ستحتاجه وربما بكمية أكبر مما احتجناه نحن، فيما الثروات تقبع تحت البحر المتوسط منذ ملايين السنين، ويمكن لهذه الثروات الانتظار بضعة أعوام أخرى، إذ ليس سيئا بالتأكيد الاستعجال قليلا لسد حاجاتنا من الطاقة والمال معا في الوقت الحالي، شرط اتباع المنطق والقواعد مبتعدين عن الارتجال والأخطاء التي يمكن أن تكون أكثر تكلفة علينا مما حصل عند ترسيم الحدود لمنطقتنا الاقتصادية مع اسرائيل، ما أدخل لبنان في صراع شائك ومعروف معها. هذه النظرة الأفقية للسياسة اللبنانية التي تتعلق بعملية استثمار النفط والغاز سلطت الضوء على عدد كبير من الشوائب والصعوبات، التي تشكل طريقا لنتائج كارثية لا تتعلق فقط بالخسارة المالية الكبيرة، لهذا بات ملحا وضروريا إعادة التفكير بالكثير من الاجراءات التي اتخذت حتى الآن».
واشارت الى اهداف عدة يجب العمل على بلوغها منها التحضير لانطلاق صناعة وطنية ضخمة لا تكون مصدرا للعائدات فقط، إنما يجب أن تشكل محركا فعالا لتطوير الاقتصاد الوطني: أعمال البنى التحتية، التدريب المحترف، معامل صناعية بجداول زمنية محددة إضافة الى الخدمات المرتبطة بالصناعات النفطية والغازية.
ودعت لبلوغ ذلك، الى مراجعة كاملة للسياسة النفطية، وتوضيح الظروف والشروط المحددة لنظام الاستثمار، واعتماد الشفافية المطلقة في كل ما يتعلق بسياسة الطاقة بحيث يصبح مؤكدا أن هذه السياسة تتماشى مع المصلحة الوطنية وتتطابق معها بمعزل عن أي شكوك، والاحترام الصارم لمبدأ فصل السلطات. كما رأت وجوب انشاء شركة نفطية وغازية وطنية: تكون مهمتها الأساسية ذراعاً مساعدا للدولة في كل ما يتعلق بالسياسة النفطية: استثمار، انتاج، التقيب، المواصلات، تحديد الأسعار والواردات، تطوير مصادر جديدة للطاقة كالطاقة الشمسية والهوائية والطاقة الحرارية للأرض، كل ذلك مضافا الى ترك الحرية للمشاريع الخاصة للقيام بالدور المطلوب منها بالحدود التي يمكن لها تحقيق الفائدة الوطنية، كما هو الحال في كافة البلدان الاخرى.