وصل قانون الامتثال الضريبي الأمريكي (فاتكا) إلى شركات التأمين، بعد أن شمل في غضون أشهر المصارف والشركات والمؤسسات خارج نطاق الولايات المتحدة. (فاتكا) يفتك بلا رحمة، بأموال الأمريكيين في كل مكان. ليس مهما أن تكون بعيدا عن الأراضي الأمريكية، (فاتكا) سيصل إليك، بل سيتمكن من كل سنت في حسابك، إنها الضريبة التي تدفعها كونك أمريكيا سواء كنت في عقر دارك، أم في دور الآخرين. ولهذا السبب بالتحديد، ارتفع في الأشهر الماضية عدد الأمريكيين الباحثين عن جنسية أخرى، والأهم التخلص السريع من جنسيتهم الأمريكية. بصرف النظر عن الإجراءات التي تكفل ذلك، سواء عبر شراء الجنسية بالمال، أم الحصول عليها بالإقامة الطويلة، أو عن طريق الزواج، وغير ذلك. (فاتكا) بالنسبة لهؤلاء ليس إعصارا عابرا أو زوبعة آنية، بل مصيبة دائمة.
وإذا ما كان هناك إنجاز ما، مهم وراسخ لإدارة باراك أوباما منذ وصولها إلى السلطة، فهو تجاوب العالم معها في (فاتكا). وهو تجاوب يعود أساسا إلى خوف المؤسسات الأجنبية المعنية، من العقوبات التي قد تفرض عليها، إذا ما واصلت التمسك بسرية الحسابات المصرفية العائدة للأمريكيين. وهذه عقوبات قاصمة، تبدأ بحظر تعاملات الولايات المتحدة معها، ولا تنتهي بالغرامات الخرافية التي قد يفرضها القضاء الأمريكي عليها. ولذلك، فإن القطاعات التي استهدفها (فاتكا) وصلت إلى شركات التأمين. فالقانون يفرض على هذه الشركات تحقيق ما جاء في القانون، فيما يتعلق بالملكيات والأصول الخاصة بمواطنين أمريكيين فيها. ويتضمن القانون أيضا، ضرورة الكشف عن كيانات تجارية أجنبية في شركات التأمين، وأن الجهات المختصة التي تعمل فيها هذه الشركات، عليها واجب المساعدة في ذلك.
منذ أن صدر (فاتكا)، كان التركيز على المصارف الأجنبية التي تتلقى مداخيل الأمريكيين، على اعتبار أنها النقطة الأخيرة التي تصب فيها هذه المداخيل. إلا أن هذا القانون لن يتوقف عند حدود معينة، وهو قابل للتطوير والتعديل في أية لحظة، الأمر الذي يترك الباب مفتوحا لاستهداف حتى الشركات المتوسطة والصغيرة مستقبلا. وحتى الشركات التي لا ترتبط بمصالح مباشرة أو غير مباشرة مع الولايات المتحدة، فإنها ستخضع في النهاية إلى اللوائح الحكومية المحلية، المنبثقة عن اتفاقات بهذا الشأن مع السلطات الأمريكية. أي أن الكماشة تحوط كل الجهات. ويلزم القانون المصارف الأجنبية، إضافة إلى المؤسسات المالية الأخرى مثل شركات الضمان وصناديق الائتمان ومؤسسات الصرافة وصناديق الاستثمار، بالتصريح عن أي عملاء لهم علاقة بالولايات المتحدة ويخضعون للضرائب الأمريكية وتزيد أرصدة حساباتهم على 50 ألف دولار للأفراد و250 ألف دولار للشركات. وحين يكون الحد الأدنى للأرصدة بهذا المستوى، علينا أن نتخيل عدد الأمريكيين الذين ينطبق عليهم (فاتكا).
ليس هناك مجال للسرية المصرفية بعد الآن. ليس فقط وفق معايير (فاتكا)، بل أيضا من اللوائح التي تستهدف بنسبة لا بأس بها من الأموال غير المشروعة، فضلا عن العقوبات على العمليات التي تقوم بها المصارف وتضع أموال المودعين في مكامن الخطر. وهذه قضية كلفت لوحدها عشرات المصارف غرامات خيالية وصلت إلى أكثر من 17 مليار دولار في حالة “بنك أوف أمريكا”، وغرامة ليست أقل ضد “مورجان ستانلي”، وعدد متعاظم من المصارف الأخرى. لكن لقانون (فاتكا) تبعات وطنية مختلفة، لأنه يستهدف المواطنين الأمريكيين فقط. الأمر الذي عزز لدى شرائح من أولئك الذين يعملون في الخارج، مشاعر التخارج من الجنسية. وليس مهما هنا، إقدام السلطات الأمريكية على رفع رسوم التخلص من الجنسية. فالذي يريد أن يحمي عشرات الآلاف، لا ينظر إلى رسوم لا تزيد على خمسة آلاف.
الجانب الأهم في (فاتكا)، أنه “متوالد” الطروحات. وعلى الشركات والمؤسسات غير الأمريكية في الخارج، أن تستعد لهذه الطروحات. بالأمس كانت المصارف واليوم جاء دور شركات التأمين، وبعد ذلك ربما “بقالة” يستثمرها أمريكي في إحدى القرى الأوروبية أو في أي قارة كانت. لقد وقعت أغلب شركات التأمين في العالم، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط على اتفاقية (فاتكا) بمجرد طرحها من قبل واشنطن. وهذه الشركات اختصرت الطريق، واتبعت أسلوب التعاون بدلا من طرق التحايل. فحتى مساحات التحايل باتت ضيقة للغاية، ومخاطر العقوبات باتت أوسع مما كانت عليه في السابق. بعض المصارف حاول التمسك بمبادئ السرية المصرفية. ما حصل، أنها تلقت تهديدات معلنة من الولايات المتحدة، بأن أمر السرية لا معنى له، وأن عليها الامتثال للقوانين.
(فاتكا) سيواصل الفتك بالأرصدة الأمريكية أينما وجدت، والجنسية الأمريكية التي كانت عند البعض ميزة مهمة، باتت عبئا كبيرا، بل خطيرا على الثروات، حتى على المداخيل الشهرية للموظف الأمريكي. إن العالم يعيش عصر (فاتكا) الآن. والقانون الأمريكي، بات مغريا لعديد من حكومات العالم، ولاسيما تلك التي في القارة الأوروبية. فإذا نجح (فاتكا) الأمريكي بصورة مذهلة، لماذا لا ينجح (فاتكا) الأوروبي أو الآسيوي أو الإفريقي أو حتى العربي؟