زياد محمد الغامدي
لا يمكن لأي قطاع اقتصادي ان ينمو ويزدهر بطريقة ايجابية دون تنظيم وإشراف ورقابة. وحين يتعلق الأمر بالمصارف، فالمسألة ليست قضية تنظيم ورقابة وإشراف بغرض رعاية القطاع وحمايته من التجاوزات التي قد تنعكس سلبيا على القطاع، بل تتجاوز ذلك لتكون حماية لمدخرات الدولة ومواطنيها وقطاعاتها الاقتصادية كلها. فدور المصارف في الاقتصاد وعجلة التنمية يجعل منها القطاع الأهم في اي دولة كانت. ومن هنا فالواجب ان تكون للبنوك المركزية اليد الطولى في التنظيم والاشراف والرقابة وغيرها مما يضمن سلامة الممارسة. ولكن على أرض الواقع وحين الامعان في الوقائع التاريخية التي سببت الازمات الاقتصادية في العالم في المائة سنة الماضية نجد ان مصدر ومنشأ الأزمات الممارسات المصرفية السيئة في الدول الغربية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي منها آخر الازمات الاقتصادية (أزمة الرهن العقاري)، والتي كادت تهوي بالنظام المصرفي برمته لولا تدخل الدول بكامل طاقاتها وقوتها لإبقاء الحد الادنى من الملاءه لمصارفها كي لا تنهار ومعها تنهار كيانات الدولة الاقتصادية برمتها. وحين الامعان في الفترة التي تسبق كل ازمة، نجد المؤشرات والدلائل بينة على حدوث ما لا يحمد عقباه، بينة الى درجة توحي للقارئ الممعن للاحداث بأن الازمات خطط لحدوثها. والسؤال الذي يسأل هنا، اين كانت البنوك المركزية في هذه الدول التي نشأت منها الأزمات، وأين كانت انظمتها الرقابية والاشرافية وسلطاتها المالية؟
قبل محاولة فهم موقف البنوك المركزية الصامت في الفترات التي تسبق كل ازمة، لا بد من قراءة العلاقة بين القطاع الخاص والحكومي في الدول الغربية، علاقة فريدة من نوعها، فهي مصدر القوة ونقطة الضعف في آن واحد. نقطة القوة لأن القطاع الخاص في الدول الغربية الكبرى هو صاحب المبادرات التنموية الكبرى. ابتداء من الكهرباء ومرورا بالمصارف وانتهاء بالاتصالات والجوالات وغيرها. ودور القطاع الحكومي كان دائما تقديم التشريعات والبنية التحتية المحفزة، وفي المقابل كانت الحكومات تستفيد من الضرائب التي كانت تفرض على هذه الشركات. وكثير من المؤرخين يرون ان الدول الغربية الكبرى صنيعة القطاع الخاص فيها. وهذا صحيح الى حد كبير، وما زال القطاع الخاص يلعب الدور الاكبر في التشكيلات السياسية عن طريق تمويل الحملات الانتخابية وغيرها. وهذا الوضع اعطى قدرة فائقة وكبيرة للقطاع الخاص على المناورة والمطالبة بل وحتى الضغط متى تطلب الأمر ذلك، وفي معظم الحالات تكون اليد الطولى للقطاعات الاقتصادية وتكتلاتها، وهذه نقطة الضعف في هذا الوضع. وحين يأتي الامر للمصارف وشركات التأمين فالأمر لا يختلف بل يزداد تأثيرا وقوة. فالمصارف الغربية لعبت الدور الاهم في حركة التنمية العلمية والعقارية والتقنية من خلال التمويل. ويصل النفوذ قمته حين تمول البنوك الحملات الانتخابية الرئاسية، وبعض البنوك يصل بها الحرص على مصالحها حد تمويل كافة الاطراف السياسية المتنافسة في الانتخابات سواء الرئاسية او البرلمانية.
وعودة على السؤال في أعلاه، فالجواب نعم، ساهمت البنوك المركزية الغربية في الازمات المالية. ساهمت عن طريق صمتها على ممارسة المصارف بيع منتجات من التعقيد بحيث لا يمكن فهمها حتى ممن يبيعها ويسوقها. كما ساهمت عن طريق صمتها على تعيين سيئي السيرة والسلوك كمدراء تنفيذيين رغم علمهم المسبق، كما حدث في باركليز البريطاني الذي عين مديرا تنفيذيا سيئا الى درجة تعرضه للفصل اكثر من مرة (آخرها من باركليز نفسه)، كما وساهمت البنوك المركزية في الازمات من خلال تجاهلها لكافة التحذيرات التي صدرت من القطاع المالي نفسه، ومن اكبر شركات الادارة المالية. والأهم من ذلك كله، خضوع البنوك المركزية لتجاذبات المصالح السياسية، حتى وصل الامر حد دفاع بعض البنوك المركزية الغربية عن ممارسات مصارفها المنغمسة في قضايا غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
على الرغم من تعدد اسباب الأزمات المالية العاصفة في الدول الغربية الكبرى، يظل خضوع جهات الاشراف المالية الحكومية لقوى المصالح السياسية احد اهم اسباب عدم قيامها بواجباتها التي من المفترض ان تمنع او على الاقل تقلل من عمق وحدة الازمات متى حدثت. كما ان الدور البارز للقطاع المصرفي في تمويل الحملات الانتخابية الرئاسية والبرلمانية وغيرها، يزيد من هذا الضعف. الا ان التحقيقات والاصلاحات الهيكلية للقطاع المصرفي منذ ازمة الرهن العقاري تعطي بصيص امل في ان المستقبل سيشهد دورا أكبر للسلطات المالية في الدول الغربية الكبرى في الإشراف والرقابة. وهذا ما نتمناه جميعا.