يوجد اليوم لغط وخلط قائم بين مفهومي اللّامركزية الادارية واللّامركزية الاقتصادية، اذ ان المفهومين مختلفان في المضمون لكنهما يلتقيان في الجوهر. الثابت هو أن تطبيق مفهوم اللامركزية الاقتصادية سينتج عنه حكماً تنفيذ لللامركزية الادارية، وبالتالي الحاجة الى تبني اللامركزية الدستورية.
فاللامركزية الادارية تعتمد على تنظيم قسم من قطاعات الدولة وادارتها وتقسيمها الى وحدات وادارات مصغرة كالضمان ودفع الجباية المالية ضمن اطار جغرافي اضيق، والتي يمكن ان تلحق مسائل ادارة شؤونها ببعض البلديات.
اما مفهوم اللامركزية الاقتصادية، فيستند الى تطوير كل منطقة اكانت قضاء او محافظة من خلال مبادرة اللامركزية، بدءاً من إنشاء موارد الإيرادات وأخرى لادارة المصاريف.
من أهم ميزات اللامركزية الاقتصادية انها تؤمن نمواً متوازناً وتشجّع السكان في المناطق والقرى على البقاء في مناطقهم أو العودة اليها، كون فرص العمل والعلم تصبح متوافرة وبالتالي تحدّ من الهجرة الى المدن التي تسبب حالياً ضغطاً متزايداً على العاصمة بيروت، يؤدي الى زحمة سير ومزاحمة في قطاع العمل، ما يؤثر سلباً في العجلة الانتاجية.
في سياق متّصل، يمكن لعملية اللامركزية الاقتصادية أن تبدأ عبر خلق مناطق حرة لتشجيع الحركة التجارية وتلزيم بعض القطاعات المنتجة كقطاع الطاقة، المياه، النقل والاشغال وغيرها من القطاعات، وبمساهمة فاعلة مع البلديات عبر ما يعرف بالشراكة مع القطاع الخاص او الـ B.O.T.(Build-Operate-Transfer).
أما من الناحية الاستراتيجية، فان عملية الانتقال من النظام الاقتصادي المركزي الى النظام الاقتصادي اللامركزي تبدأ عبر عملية تحوير لللأقتصاد وتحويله من اقتصاد خدماتي الى اقتصاد انتاجي، يكون عموده الفقري مرتكزاً على مبدأ زيادة الصادرات. لكن هذه العملية بحاجة الى تفعيل الانتاج ووضع اطر للتمايز ضمن القطاعات الخدماتية-الصناعية والزراعية، مع الاخذ في الاعتبار تجنب حصول اي نوع من التنافس السلبي، اي المنافسة القائمة على عنصر الأسعار والخدمات والمنتجات المماثلة من المناطق الاخرى، والتركيز على مفهوم ما يعرف بالميزة التفاضلية او””Comparative Advantage، أي في هذه الحالة، كل منطقة اكانت محافظة او قضاء او حتى بلدية، تعمل السلطة المحلية فيها على تطوير القطاعات الاقتصادية وتفعيلها عبر التركيز على انتاج منتجات او خدمات متميزة وتسويقها، تصبح من ضمن تخصصها فقط. مثالا على ذلك البقاع الذي يتميز بانتاج الكروم وصناعة النبيذ، اذ ان حصرية هذا الانتاج وتشجيعه يجب ان ترتكز فيه بسبب وجود تربة وخبرات ومصانع متخصصة تفتقدها المناطق الاخرى، فضلاً عن ايجاد او الافادة من بعض الموارد الزراعية التي يمكن تحويرها كزراعة الحشيشة والتي وبحسب الابحاث، تمتاز بجودة مميزة، والتي اذا تم استخدامها وتسويقها الى شركات الادوية، فمن الممكن ان تدُر مداخيل لا بأس بها، ولكن مع الاخذ في الاعتبار وضع نظام رقابي صارم من اجل تجٌنب استعمالها في اغراض غير شرعية.
أمّا في ما يخص المرافق العامة، فمن شأن اللامركزية الاقتصادية ان تؤمن نمواً وايرادات متعددة، مثالاً على ذلك وضع المرافئ، اذ تصبح عملية الاستيراد والتصدير للبضائع محصورة فيها. ومن شأن ذلك ان يؤمن ايضاً ايرادات ويشجع التصدير ويخفض تكلفة المواصلات بسبب انحسارها ضمن اطار جغرافي ضيق.
أما السؤال الأهم فيدور حول دور الدولة وما الحاجة اليها؟
ان دور الدولة والسلطة المركزية يمكن أن يأخذ حيزاً هاماً كونها من الممكن أن تؤدّي دور الموجه لعملية تحوير الاقتصاد ووضع أطر للتنافس الايجابي المفترض ان يحصل، كما يمكن أن يكون لها دور داعم، خصوصاً في الازمات الدقيقة، اذ يمكن ان نشبه هذا الدور بدور مصرف لبنان عبر تشبيه المناطق الى المصارف التجارية وغيرها. ومن المعلوم ان لكل مصرف كيانه الخاص، لكنه يلتزم بالسياسات النقدية العامة ويدعم بالمقابل عند حدوث ازمات معينة.
أمّا عن سبل تأمين الموارد، فعلى الحكومة المركزية أن يكون لها اطر جغرافية وسياسة اقتصادية تعتمد فيها على ما يعرف باقتصاد المعرفة “”Knowledge Economy، والخدمات المصرفية والمرافق العامة… وعلى السلطات غير المركزية أن تخصص، ضمن المنظومة الاقتصادية المقترحة، نسبة من ضرائبها وعائداتها عبر ايداعها (كمورد احتياطي) بتصرف السلطة المركزية من اجل تعزيز وضعها الاقتصادي والمالي والحصول على الدعم الازم في الازمات المحتملة كما ذكرنا آنفاً.
يبقى السؤال: ألم يحن الاوان لتبني نظام عملي جديد من اجل النهوض باقتصادنا الوطني؟