بروفسور جاسم عجاقة
لا يُمكن القول إلّا إنها من أكبر المآسي وأمرّ الإستحقاقات التي يمرّ بها لبنان. هكذا يُمكن وصف إستمرار عملية خطف العسكريين اللبنانيين! وعلى صعيد الشعور الوطني، لا يُمكن إلّا أن نتضامن مع أهالي العسكريين ومع المؤسسة العسكرية في هذه المحنة الرهيبة.
وتتعقّد المفاوضات على صعيد تحرير العناصر ويُمكن القول إنّ مبدأ المقايضة أصبح مقبولاً عند اللبنانيين على صعيد الطبقة السياسية والقاعدة الشعبية. إلّا أنّ عدم القدرة على ترجمة هذه المقايضة يزيد من الضغط على أهالي العسكريين المخطوفين الذين يلجأون تحت وطأة المأساة وتحت التهديدات التي يتلقونها، إلى إقفال الطرقات.
وكنتيجة لعمليات الإقفال التي أصبحت شبه يومية، تتزايد الصرخات التي تُندّد بإقفال الطرقات بحجة أخذ الناس رهينة وتحميلهم خسائر مادية ناتجة عن عدم وصول السلع والخدمات إلى المستهلك. إلّا أنّ هذا الأمر ليس بهذه البساطة ولكي نستنتج إذا ما كان هناك أضرار أو لا من هذا الأمر، يتوجب فهم نوع العمليات بين البقاع والداخل ومعرفة مَن هو المُستفيد الأول منها.
وزن البقاع الاقتصادي
من المعروف أنّ البقاع يُنتج الحبوب والخضار والفاكهة، هذا بالإضافة إلى بعض الصناعات كصناعة تكرير السكر والألبان والأجبان والنبيذ وغيرها. وقد شكل فيما مضى خزاناً زراعياً لبلاد الشام والفرنسيين والرومان وغيرهم من المستعمرين. وككل المناطق غير الحدودية، يُعاني البقاع من هجرة أهله إلى المدينة، ليبقى في سهله فقط المزارعون وبعض الصناعيين والتجار.
وفي نهاية الحرب الأهلية، أخذ النشاط الزراعي مجده مع زيادة المساحات المزروعة وإنشاء صناعات زراعية حولها. وبدأت في السنين الأخيرة عملية خلق صروح جامعية وفروع لمصارف تسمح بإيصال الخدمات إلى أهل البقاع.
وبدأ البقاع يشهد عملية تطوير عقاري حول الطرق الدولية الرئيسة من دون أن يكون هناك مشروع إنمائي جدّي يُغطي كل البقاع. لكنّ الأوضاع السياسية والأمنية التي عصفت بلبنان منذ نهاية الحرب الأهلية كذلك ضعف الإستثمارات، جعلت البقاع مهمّشاً إقتصادياً مع وزن لا يتجاوز الـ 10% من الناتج المحلي الإجمالي.
الاقتصاد السوري مستفيد
إلّا أنّ البقاع أخذ وزناً إستراتيجياً بحكم الجغرافيا بين سوريا والداخل اللبناني والتشابك العضوي بين الاقتصاد اللبناني والسوري. فطرقات البقاع الدولية مملوءة بالشاحنات من وإلى سوريا.
وهذه الشاحنات كانت في الماضي – قبل الثورة السورية – تنقل البضائع اللبنانية إلى الدول العربية عبر سوريا، وأصبحت بعد الأحداث تنقل البضائع السورية إلى المرافئ اللبنانية لتصديرها إلى الخارج. كذلك فإنّ قسماً من هذه الشاحنات يعبر الحدود من سوريا إلى لبنان وتُحمّل البضائع الزراعية من البقاع وتنقلها إلى المرافئ للتصدير وإلى السوق المحلية.
غير أنّ ما يصدم في الأمر هو أنّ الشاحنات التي تنقل البضائع السورية للتصدير والتي يُقدَّر عددها بمئات الشاحنات يومياً لا تدفع رسوماً ولا ضرائب مرور والجمارك اللبنانية لا تستوفي رسوماً على هذه البضائع بإستثناء الطوابع المالية (عدة ألوف من الليرات اللبنانية).
أيضاً وبالنظر إلى الشاحنات السورية التي تعبر الحدود فارغة، فإنها تنقل البضائع اللبنانية إلى الداخل اللبناني. والأمر المُلفت أنّ هذه الشاحنات لا تخضع لأيّ رسوم وحتى إنها تسدّ حاجاتها من المازوت من سوريا وسائقوها لا يشترون طعاماً من لبنان بل يأتون و»زوادتهم» معهم.
وبحسب الجمارك إحتلت سوريا المرتبة الأولى في صادرات لبنان (13% من أصل 7.25 مليارات دولار) بعدما كانت في المرتبة الخامسة في لائحة الشركاء التجاريين للبنان. وأهم الصادرات إلى سوريا الحيوانات، المشروبات والتبغ ومعظمها من البقاع والجنوب.
المتضرر الأول
لذا وممّا تقدّم نرى أنّ إقفال أهالي العسكريين المخطوفين الطرقات خصوصاً طريق بيروت – دمشق الدولي، يُسبب الضرر بالدرجة الأولى على الاقتصاد السوري وعلى العمالة السورية.
وما يرد في بعض وسائل الإعلام عن خسائر فادحة على الاقتصاد اللبناني غير صحيح ولا يمت إلى الواقع بصلة. فوزن البقاع الاقتصادي لا يسمح بهذا القدر من «الخسائر المُفترَضة» كما أنّ قسماً مهماً من الصناعات الزراعية في البقاع يُستهلك داخلياً ويتكفل أصحاب هذه الصناعات بتوصيله إلى المراكز التجارية. والدليل الأكبر على صحة هذا القول هو أنّ المراكز التجارية لم تفتقد لهذه المواد.
أيضاً، يُمكن القول إنّ إقفال الطرقات قلّل إلى حدٍّ ما العمالة السورية المُتمثلة بالدرجة الأولى بسائقي الشاحنات السورية التي تنقل البضائع داخلياً وبالدرجة الثانية بالعمال السوريين اليوميين الذين يتنقلون بين المناطق اللبنانية من جهة وبين لبنان وسوريا من جهة أخرى للحصول على عمل.
أما الأضرار على الاقتصاد اللبناني فتتمثل، وبغياب أرقام رسمية، بتأخير في مواعيد تسليم البضائع والخدمات، زيادة في كلفة البضائع ناتجة عن زيادة طول الطريق لإيصال البضائع. لكن هذه الزيادات ليست بالكارثية ومع وزن البقاع الاقتصادي لا تُشكل عبئاً كبيراً على الاقتصاد اللبناني.
ولتأكيد هذا الأمر يكفي التذكير بأنّ الزراعة – قسم كبير منها يأتي من البقاع – تُشكل 5.1% من الناتج المحلي الإجمالي، وأنّ الصناعة – قسم كبير يأتي من بيروت وجبل لبنان – تُشكل 19.1% من الناتج المحلي الإجمالي والخدمات – قسم كبير منها من بيروت وجبل لبنان – تُشكل 75.8% من الناتج المحلي الإجمالي.
كذلك فإنّ الصادرات اللبنانية الأساسية هي الذهب (28%)، المواد الكيماوية، الفواكه، التبغ، المعادن للبناء، المحوّلات الكهربائية، ألياف النسيج والورق… ومعظمها يأتي من خارج المناطق التي تُقطع طرقاتها. وإذا ما نظرنا إلى الإستهلاك الداخلي نرى بأنه زاد منذ كانون الثاني 2014 وحتى آب 2014 بنسبة 4.1% مقارنة مع العام الماضي.
لا تبرير لقطع الطرقات…
قد يتراءى للبعض أننا نؤيّد إقفال الطرقات، لكنّ الحقيقة هي أننا من أصحاب الفكر الليبرالي الاجتماعي وإقفال الطرقات ليس جزءاً من هذا الفكر. لكن ما ورد في بعض وسائل الإعلام عن خسائر كبيرة على الاقتصاد اللبناني لا يُمثل الحقيقة ونحن هنا شهود، لذا وجب قول الحقيقة.
لا شك في أنّ قطع الطرقات يشكل عائقاً على الاقتصاد والأهم أنه يؤثر سلباً في ثقة المستهلك والمُستثمر، وما لجأ إليه أهالي العسكريين ليس إلّا نتيجة لضعف القرار السياسي في هذا الملف الوطني بامتياز.