ذكاء مخلص الخالدي
تسببت تصريحات أطلقها سياسيون أخيراً بالتزامن مع تحليلات اقتصادية تناولتها وسائل الإعلام في شأن الأوضاع الاقتصادية والمالية في لبنان، ببث جو تشاؤمي حول الاقتصاد اللبناني أثار مخاوف كثيرين. وجاءت هذه التصريحات والتحليلات في وقت وصل التشنج الأمني والسياسي الداخلي حداً حرجاً. فمن جهة كان الهجوم المفاجئ لمسلحين من سورية على عرسال وتدخل الجيش وخطف مجموعة من جنوده، ومن جهة أخرى يزداد التشنج السياسي حدة باستمرار شغور منصب رئيس الجمهورية وبروز احتمالات كبيرة لتمديد جديد لولاية مجلس النواب في مواجهة حركة شعبية معارضة للخطوة.
وجاءت هذه الأوضاع فوق تراكمات أرهقت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية في لبنان على مدى السنوات الماضية، ومن أهمها استمرار الحرب في سورية ووجود أكثر من مليون نازح سوري يزاحمون اللبنانيين على فرص العمل والمساكن، وأوضاع إقليمية متردية ضربت السياحة إلى لبنان التي تأثرت أيضاً بعوامل دولية مثل تباطؤ الاقتصاد الأوروبي ومشكلة الديون السيادية في منطقة اليورو. وتدهورت أوضاع الخدمات العامة من كهرباء وماء، ولا يزال احتمال تخصيصها إلى جانب الاتصالات يثير مخاوف العمال على مستقبل وظائفهم من جهة، ومخاوف المواطن العادي من أن يؤدي التخصيص إلى هدر المال العام من جهة أخرى.
ولا تزال معدلات البطالة مرتفعة خصوصاً بين الشباب وتتسع فجوة التفاوت الطبقي والمناطقي، ويستمر تأجيل العديد من القرارات المهمة بما ينعكس سلباً على الوضع الاقتصادي والسياسي، مثل قرار البدء باستخراج النفط والغاز وإصدار الموازنة الذي يتأجل للسنة التاسعة على التوالي، ما أثار خلافاً حول قانونية الإنفاق الحكومي. وثمة عراقيل أمام جباية الموارد وإصلاح الكهرباء وإقرار سلسلة الرتب والرواتب للقطاع العام واستمرار الإنفاق من دون اعتبار للأوضاع المالية العامة.
سجل إجمالي الناتج المحلي معدل نمو مقداره ثمانية في المئة سنوياً خلال 2007 – 2010، ليهبط بعدها إلى 1.5 في المئة سنوياً خلال 2011 – 2013. وساهمت كل المؤشرات الاقتصادية المهمة في هذا الانخفاض، كمؤشرات قطاعات البناء والسياحة والتجارة الخارجية والاستثمار، والتي تأثرت بدورها بتداعيات الحرب السورية الجارية منذ آذار (مارس) 2011.
ويرتبط الاقتصادان السوري واللبناني ارتباطاً وثيقاً ببعضهما بعضاً، إذ تمثل سورية العمق الاستراتيجي للاقتصاد اللبناني وقاطرة النمو الحقيقي لبعض المؤسسات والمصارف اللبنانية. وتُعتبر سورية المنفذ البري الوحيد للبنان إلى دول الجوار، وهو منفذ حيوي جداً في أوقات السلم لأنه ممر لتصريف السلع اللبنانية وسلع الترانزيت الواردة إلى مرفأ بيروت في أسواق دول الخليج. وهو المنفذ الوحيد للسياحة البرية التي تأتي من العراق والأردن وتركيا ودول الخليج.
وكان تأثير الحرب السورية الأكبر في قطاع السياحة التي تُعتبر حجر الزاوية في الاقتصاد اللبناني وقاطرة نمو قطاع الخدمات الذي يمثل 75 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. ولما حظرت دول الخليج على رعاياها التوجه إلى لبنان وانخفضت السياحة البرية بمعدل 87 في المئة خلال السنوات الثلاثة الماضية، تأثر الاقتصاد اللبناني في شكل كبير. وكان الهبوط في قطاع السياحة كبيراً بين 2010 و2014. فمن أعلى مستوى له (مليونان و158 ألف سائح) في 2010 هبط أكثر من نصف مليون في 2011. وواصل هبوطه ليبلغ مليون و274 ألفاً في 2013، وهو هبوط كبير في ضوء أهمية السياحة للاقتصاد اللبناني. ونتيجة لذلك، انخفض معدل الإشغال في الفنادق، خصوصاً العاصمة بيروت. وسجلت نسبة إشغال الفنادق 51 في المئة نهاية 2013 مقارنة بـ 68 في المئة في 2010. ويؤدي التراجع في السياحة إلى إقفال المؤسسات السياحية الصغيرة، بينما ترفع المؤسسات الكبيرة أسعارها لتعويض الخسارة الناتجة من قلة الطلب.
وشمل التراجع في عدد السياح انخفاض حركة الركاب في مطار بيروت وتراجع الحجوز الفندقية وغيابهم عن سوق الاستهلاك اللبناني في المطاعم والأسواق. وفي الظروف الاعتيادية تشكل عائدات السياحة ثمانية بلايين دولار ونحو 25 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. ومع تشكيل الحكومة الجديدة في 2014 بدأت الشركات السياحية تنتظر بوادر حلحلة لهذا القطاع لكن التطورات السياسية والأمنية قلبت المعادلة.
وأضعفت الحرب في سورية والأوضاع المحلية والإقليمية المتشنجة قرارات استثمار القطاع الخاص في الداخل وقطاع المغتربين والأجانب الذين يهتمون عادة بالاستثمار في القطاع العقاري. ويتسبب انخفاض معدلات الاستثمار بضعف النمو الاقتصادي ومعدلات البطالة العالية. ويعود انخفاض معدلات الاستثمار في الداخل إلى تركيز المصارف على القروض الشخصية لأغراض استهلاكية، وضعف دور السوق المالية في تجميع المدخرات، وتناقص الاستثمارات الأجنبية التي تشكو من مناخ غير ملائم يعاني سلبيات إجرائية وقانونية كثيرة.
وتطالب بعض الشركات العاملة في لبنان بالحصول على تسهيلات ائتمانية وتسهيل عملية البدء بمشروع من خلال تسهيل الإجراءات وتقليص البيروقراطية. ويحذر خبراء من خطورة استمرار ضعف الاستثمار الخاص والأجنبي، خصوصاً أن هناك انعداماً كلياً تقريباً في استثمارات القطاع العام. ويعتبر إنفاق لبنان الاستثماري على تكوين رأس المال الثابت الأدنى على مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ففي الأخيرة يبلغ معدل الإنفاق الاستثماري ستة في المئة من إجمالي الناتج المحلي في مقابل 1.6 في المئة في لبنان خلال 2010 – 2013.
وتأثرت حركة التجارة الخارجية في شكل واضح بالجمود الاقتصادي وشمل ذلك الاستيراد والتصدير ما تسبب بانخفاض إيرادات الحكومة من العوائد الجمركية وواردات الضريبة على القيمة المضافة بينما استمرت النفقات الحكومية بالارتفاع وبالتالي ازداد عجز الموازنة وارتفعت نسبة الدين العام إلى إجمالي الناتج المحلي الأمر الذي يعتبره البعض مثيراً للقلق. وانخفضت حركة التجارة البرية من خلال سورية عبر المنافذ الرسمية بأكثر من النصف بين 2010 و2013 من 2.3 بليون إلى بليون دولار. وكان الاستيراد هو الأكثر تأثراً إذ انخفض نحو 70 في المئة.