رائد الخطيب
كلنا على مساحة الوطن ننتظر الثروة النفطية الواعدة التي لا تزال نائمة منذ ملايين السنين. ولا فرق كبيرا منذ التأكيد على وجودها وبين الأيام التي كانت بها حلم، لان الحلم ما زال بعيدا.
ورغم الإجماع المستعصي للبنانيين، غير أن هذا الجمع ممكن عند التحدث عن الثروة النفطية. أما عند التنفيذ، فتعود الأمور الى ماهيتها الأصلية.
ان ملف النفط والغاز في لبنان هو حدث كبير. والأحداث الكبيرة على مر التاريخ تحمل دائما وجهين، وجه واعد عند تجلي التخطيط الصحيح والشفافية، ووجه شاذ عند التخبط بالمحاصصة وتقسيم الوطن.
لا شك أن السياسة النفطية والغازية في لبنان رؤية جديدة، تحتاج الى الكثير من التبصر والإدراك بعيد الأهداف، فهذه الثروة تخصنا وتخص الأجيال اللاحقة أيضا، من هنا كان الإطار القانوني الصحيح البداية الفضلى لهذا النوع من السياسات الحديثة.
الضالعون في هذا المجال يعلمون الأخطاء التي وقعت بها الكثير من الدول عند التشريع لمثل هذه السياسات. ومن أكبر الأمثلة على ذلك الدولة البريطانية العظمى، فالتسرع عند بداية اكتشاف النفط لديها، دفع بها الى التغاضي عن أمور كثيرة لصالح الدولة. ولو أننا لسنا بمعرض التحدث عن أخطاء الدول، غير أن هذه الأخطاء لا ريب يجب أن تكون عاملا مساعدا للهيئة التشريعية في لبنان للتوصل الى القانون الأنسب ولوضعه في مكانه الصحيح من حيث الفائدة الكلية للوطن، كما هو الحال في النروج مثلا والتي يعتبر صندوقها السيادي الأول عالميا نظرا الى السياسة المتبعة لديها سواء في التشريع القانوني أو الاقتصادي على السواء..
وتلفت المحامية سهير خليفة، الى أنه في لبنان، ما زال يعترض تقدم ملف النفط والغاز مجموعة من المسائل، منها السياسي الداخلي ومنها التقني والسيادي الخارجي، في حين أن اسرائيل تسير قدما في عملية استكشاف واستخراج واستثمار حقولها النفطية في مياه المتوسط رغم الاشكالية الحدودية مع لبنان، وذلك بعد أن اقرت في 30 آذار 2011 بواسطة الكينيست قانونا نفطيا، بعد جدل كبير تميز بالشفافية الكاملة، فيما يؤخذ على لبنان عدم المصادقة على مرسومين تنفيذيين، والمتعلق أحدهما باتفاقات الاستكشاف والانتاج بهدف اعتماده للتوقيع مع الشركات المتقدمة التي رست عليها المزايدات، والآخر المتعلق بتقسيم البلوكات البحرية وذلك بهدف اعتماد هذا التقسيم لتحديد منطقة عمل كل شركة».
لا بد من الاشارة الى ما قام به لبنان باكرا على صعيد مسح المياه البحرية اللبنانية. فبلنان يعتبر من الدول القليلة، وربما يكون البلد الوحيد الذي انجز مسح المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل ساحله بتقنيات حديثة ومتطورة جدا. وهذا ما يخفض نسبة الأخطاء في تحديد المكامن الهيدروكربونية بنسبة كبيرة ويظهر بوضوح أماكن وجود مكامن نفطية محتملة..
لا شك ان خطوة مسح الأراضي تعتبر من الخطوات المهمة في سياسة لبنان النفطية، ولكن كالعادة هي خطوة غير كافية لا بل ناقصة في ظل المقارنة مع ما تقوم به الدول التي تحتفظ في باطن أرضها بثروات نفطية ستساهم في تطوير الاقتصاد الوطني بكامله.
«اسرائيل هي عدونا الأكبر»، تقول خليفة، «لكن العداء لها لا ينفي حقيقة ما قامت به في ما يتعلق بسياستها النفطية. ففي قانون صادر عام 2011، خاص بالسياسة النفطية لاسرائيل، عمدت الهيئة المشرعة الى المحافظة على قيمة الرسوم التي كانت محددة في القانون القديم العائد للعام 1952 على النفط والغاز، بنسبة 12.5 في المئة، ولكنها من جهة ثانية وضعت نظاما تصاعديا للضرائب. إذ تبدأ الضريبة بمعدل 20 في المئة الى أن تكون الشركة المستثمرة قد نفذت 150 في المئة من كامل استثمارها بحيث تزداد الضريبة حتى تصل الى 50 في المئة. ومثل هذا النظام يعتبر الأنسب للدول التي ما زالت تتخبط للنهوض«. اضافت «ما زال المرسومان الصادران في 2010 لم يصادق عليهما حتى، إضافة الى أن معدل الدولة من الأرباح في لبنان وفقا للمراسيم يراوح بين 5 في المئة و12 في المئة على النفط، فيما لا يتجاوز 4 في المئة للغاز الطبيعي، اذ ان الهيئة المشرعة اعتبرت أن الشركات تواجه مخاطر جمة نسبة الى طبيعة الأرض والأعماق في لبنان، وأنه يجب التضحية بهدف جلب الشركات المستثمرة، وهو امر غير مفهوم».
ولفتت الى انه اذا كانت الهيئة تتذرع بالمخاطر السياسية في هذا الشق، فماذا عن العراق والسودان وليبيا، حيث الحروب دائرة والاستثمارات النفطية لم تتأثر؟
الصندوق السيادي
ورأت خليفة أن «الأكثر أهمية في موضوع النفط هو الصندوق السيادي، فإذا كان القانون اللبناني قد أشار الى نظام الصندوق السيادي ونظام إدارته الخاصة ووجهة استثمار وتوظيف واستعمال العائدات على أن يوضع بموجب قانون خاص بالاستناد الى مبادئ وأسس واضحة وشفافة للتوظيف والاستعمال، غير أن إصدار هذا القانون الذي يتعلق بنظام إدارة الصندوق السيادي ووجهة استثمار العائدات النفطية وتوزيعها واستعمالها ومسألة ارتباط هذا الصندوق بمالية الدولة بالموازنة أو عدم ارتباطه بها، وإشكالية الدين العام بشكل يؤمن حصة خزينة الدولة من تلك العائدات والمحافظة على العائدات النفطية والغازية لاستعمالها في مشاريع استثمارية طويلة الأمد كما طريقة التخلص من الدين العام، مواضيع ما زالت تنتظر اتفاق الفرقاء السياسيين للوصول الى إقرار مثل هذا القانون الذي يعتبر الأهم على الاطلاق في السياسة النفطية لأي بلد. فيما لو نظرنا الى القريب منا الى اسرائيل لرأينا أن كافة الأجهزة المالية وغيرها من نظام استثمار النفط والغاز لديها محدد بالأرقام وبالنسب المعينة، بحيث يتبين الخط الأبيض من الأسود في القانون الصادر في العام 2011، والذي أقر من قبل النواب دون أن يتركوا الأمر للحكومة وحدها أو لوزير أو حتى لهيئة معينة، فمجلس النواب له السلطة التشريعية ولا يجب اغتصاب سلطته هذه من قبل أي كان، فالشفافية المطلوبة في لبنان لا تنفي أهمية مبدأ فصل السلطات وتعزيزه في هذه الناحية».
وإذا كان الخبير النفطي ربيع ياغي قد اعتبر، أن ما نحتاجه في لبنان هو اتفاق سياسي كامل على هذا الموضوع فهو لا ريب صادق. إذ قال «على لبنان أن يقرر تحمل مسؤولياته تجاه الأجيال المقبلة، فالغاز الطبيعي ليس ثروة لطائفة أو منطقة أو وزير وإنما ثروة لبنانية تخص حاضر لبنان ومستقبله«. أضاف أن في لبنان طريقة قبلية في التعاطي مع هذا الملف وعناد سياسي لا يتلاءم مع موضوع دقيق وعلمي واقتصادي يهم كل اللبنانيين». والواقع أن هذه الكلمات تصف الوضع اللبناني بدقة متناهية، فإذا كانت القوانين ملتبسة والمحاصصة الداخلية هي العنوان العريض في الداخل، إضافة الى انعدام الشفافية نحو المواطن، فالمشاكل السيادية الخارجية لا تقل عنها أهمية.
تقدم اسرائيل
من هنا، فاسرائيل باتت تسبق لبنان بعشرة سنوات على صعيد الاكتشاف والانتاج، والأهم هو ابرام عقود سواء مع الدول العربية التي لديها تطبيع علاقات معها أو الى أوروبا والاسواق الآسيوية. وفعلياً فإنّ اسرائيل، بدأت حفرياتها في موقع تمار الذي لا يبعد كثيراً أكثر من 35 كيلومتراً عن لبنان، لتتابع اكتشافاتها سواء في غزة أو في المناطق الأخرى. وتحتل اسرائيل قائمة الدولة اللأولى في منطقة شرق المتوسط على صعيد الانشطة البترولية، وهي أيضاً تحاول الدخول على البلوكين 9 و10 في لبنان.
عام 1982، حلت معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار مكان المعاهدات الأربع الموضوعة من قبل الأمم المتحدة في العام 1958. وقد وضعت هذه المعاهدة موضع التنفيذ عام 1994، فيما صادق لبنان عليها في 5 كانون الثاني 1995، بينما سوريا واسرائيل كانتا من ضمن الدول التي لم توقع على هذه المعاهدة. وتنظم هذه المعاهدة كافة المواد القانونية المتعلقة بالحدود البحرية وبملكية الثروات البحرية أيضا بكافة جوانبها وتفاصيلها.
ويشكل ملف ترسيم الحدود البحرية في لبنان عائقا كبيرا يقف بوجه البدء بأعمال التنقيب. وتقول خليفة «قامت اسرائيل بترسيم حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة انفراديا وهو ما رفضه لبنان عبر الرسائل والاعتراضات التي وجهها الى الأمم المتحدة. والمشكلة تكمن في أن اسرائيل قامت برسم خط عمودي في الناقورة على الخط الذي يجمع بيروت بحيفا، فكان اعتراض لبنان على الآلية المعتمدة في الترسيم والتي تحرم لبنان من حصص في الحقول المكتشفة. وعام 2007، قام لبنان بتوقيع معاهدة مع قبرص لتقسيم الحدود البحرية، الأمر الذي أعطى اسرائيل الحجة لقضم 800 كيلومتر مربع من المنطقة الاقتصادية الخاصة التابعة له، خاصة بعد أن وقعت قبرص معها اتفاقية تنقض وتخالف اتفاقيتها مع لبنان. ولا شك أنه كان للوساطة الأميركية بعض الايجابيات عندما قامت اسرائيل بالاعتراف بأحقية لبنان بـ500 كيلومتر مربع من أصل 800 متنازع عليها«.
إشكالية الحدود مع سوريا
وترى خليفة، أنه إذا كانت اشكالية ترسيم الحدود مع اسرائيل تعتبر عائقا كبيرا، غير أن ما لم يتم الاضاءة عليه أبدا هو إشكالية الحدود مع سوريا حيث من المرجح اكتشاف أكبر حقول النفط وفقا للدراسات. فالسوريون لم يختلفوا عن الاسرائيليين في ترسيم الحدود احادي الجانب بشكل يخالف المادة 47 من معاهدة 1982 للأمم المتحدة، كما قاموا بترسيم مناطق الاستكشاف وأطلقوا دورة تراخيص، وإذا تمت مقارنة الخرائط التي ارفقتها الدولة السورية مع خرائط الدولة اللبنانية نجد أن ثمة تداخلا بمساحة كبيرة في نقطة محددة بين الحدود البحرية للبلدين. لكن الدولة اللبنانية واجهت هذه المشكلة بصمت تام.
إلا أن مصادر معنية بالشأن النفطي ترى أن المسألة برمتها، وبعكس رأي خليفة، «لا تتعلقُ بمسألة هل نتقدم على اسرائيل أمْ لا، فنحن متقدمون عليها بأشواط في هذا المضمار، خصوصاً وان لبنان أفضل منها في المضمار القانوني. إلا أن اسرائيل استطاعت القيام بترسيم بلوكاتها البحرية، والسير بعملية الاكتشافات والتنقيب، إلا أن المشكلة اللبنانية تتعلق بايجاد توافق سياسي. هذا التوافق غير موضوع في الخدمة الآن، لا سيما وأن نحو 4 أشهر مضت والسدة الرئاسية تعصف فيها الرياح.. الأمر لا يتعلق إلا باقرار المرسومين في مجلس الوزراء. لكن من يحل هذا الموضوع سوى توافق الأطراف على انهاء الصراع السياسي لحساب هذا الموضوع الاستراتيجي والحيوي».
في الخلاصة، إذا كان لبنان يحتاج الى مراجعة كاملة للسياسة النفطية وفي المكان الأول وضوح وطبيعة الشروط المحددة لنظام الاستثمار بشكل يتفادى معه خسارة مليارات الدولارات التي ستنتج عن معدل الربح الموضوع في القانون النفطي في لبنان، وإذا كان موضوع الصندوق السيادي وإنشاء شركة نفطية وطنية تواكب العمل وتكون ذراع الدولة في كافة الأعمال المخصصة في اكتشاف النفط والغاز، وإذا كان نظام الضرائب وغيره من المتطلبات الأساسية، أمور مطلوبة وملحة، غير أن المطلوب بالأساس هو الدولة القوية.. فالقوى السياسية تهرب من المشكلة عبر التأجيل، والسبب تقسيم الحصص، حق لبنان ثابت ولكن المشكلة هي في البحث عمن يحافظ على هذا الحق.