Site icon IMLebanon

التشدّد في ملاحقة المصارف لهدفين: مضاعفة العقوبات على الخصوم وتحصيل المليارات للحكومات

AlMustakbal
حيدر الحسيني
ينمّ أداء الولايات المتحدة على مستوى السياسة الخارجية في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما، عن أن واشنطن ملتزمة إلى حد كبير بالأدوات «الناعمة» في التعامل مع الخصوم، أساساً عن طريق الحصار الاقتصادي بشتى أبعاده، وفي طليعتها المالي والنقدي والتجاري.

لا يعني هذا التحوّل بالضرورة بأن أميركا وحلفاءها أصبحوا مقتنعين بسلمية العلاقات الدولية، وإنما يُعزى أساساً إلى ضائقة الغرب المالية المستمرة منذ عام 2008 والتي بعثرت أولويات عواصم القرار وأساليب عملها، مُضافاً إليها الخسائر البشرية والمادية التي تكبدتها في حروبها خارج الحدود منذ انفراط عقد الاتحاد السوفياتي السابق.

إنها حرب ساخنة يخوضها الغرب وخصومه بالوكالة في صراع نفوذ على أرض الآخرين، كما يحصل في بعض الدول العربية، وحرب اقتصادية باردة متزامنة تُستخدم فيها كافة أنواع القيود والتدابير التي تبدأ من فرض عقوبات محدودة على أشخاص ومؤسسات، كما في حالة روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية، ولا تنتهي إلا بشلل كامل أو شبه تام يصيب اقتصاد الدولة برمّته، مثلما يجري مع إيران بحجة برنامجها النووي.

في خضمّ هذه «المعمعة» تجد المصارف نفسها اليوم أكثر من أي وقت مضى، عُرضةً لدعاوى قضائية تفرض عليها غرامات هائلة وتمنعها أحياناً من مزاولة بعض النشاطات المالية، كما تجبرها على إقالة موظفين ومديرين، بذريعة أن هذه البنوك، ومنها أميركية وأوروبية عملاقة، وحتى من البلاد «المُعاقَبة» نفسها، قد ساعدت متهرّبين من الضرائب أو أسهمت في أزمة الرهن العقاري وعمليات المصادرة أو تلاعبت بالفوائد أو تورطت في تبييض الأموال أو تمويل الإرهاب أو خرقت العقوبات المفروضة على بلد لأسباب معروفة تارةً وغير معلنة تارةً اُخرى.

«في قبضة القضاء»

لم تجد المصارف الأميركية والأجنبية أمام الملاحقة القضائية الأميركية سوى طلب الرحمة في إطار تسوية للخلاص من الإجراءات التي تقول واشنطن إنها «قضائية» لا دخل للإدارة السياسية فيها، على النسق الذي سوّغ الرئيس أوباما رفضه طلب نظيره الفرنسي فرنسوا هولاند منه التدخل شخصياً لحماية أكبر المصارف الفرنسية من غرامة أميركية هائلة.

القضاء الأميركي لم يعتق أي مصرف «متورّط» من التغريم، فكانت تلك «التسوية» التي تضمّنت غرامة تاريخية قياسية لا سابق لها بحق «بنك أوف أميركا»، الذي توصل في آب الماضي إلى اتفاق يدفع بموجبه غرامة تناهز 16,65 مليار دولار، لتسوية تحقيقات تتهمه بعمليات تضليل مارسها على المستثمرين في عمليات شراء أوراق مالية مضمونة برهون عقارية عالية المخاطر، على أن يُسدد المصرف ثاني أكبر مصرف في البلاد 9,65 مليارات دولار نقداً، ويُقدم مساعدات قيمتها 7 مليارات لأصحاب المنازل المتضررين. ولم يجد المصرف بُدّاً من الإقرار بأنه باع أوراقاً مالية بمليارات الدولارات مضمونة برهون عقارية عالية المخاطر، وأخفى حقائق مهمة تتعلّق بجودة القروض الأساسية.

الخزانة الأميركية التي أصبح شغلها الشاغل التقشف من ناحية، وتفعيل الجباية من ناحية اُخرى، وجدت في تغريم المصارف أداة سهلة لإرواء عطشها للسيولة، بقرارات وأحكام صادرة عن سلطات عدة، منها وزارة العدل ومجلس الاحتياط الفيدرالي (المصرف المركزي) وإدارة الخدمات المالية ووكالات حكومية وهيئات عامة وهيئات لضبط الأسواق المالية.

نتيجة لذلك، كانت السنة الماضية الأكثر «ربحاً» خلال الأعوام الثلاثة الماضية، حيث دفعت خلالها المصارف أكثر من 50 مليار دولار. في شباط 2012 وحده، حصّلت الغرامات 25 مليار دولار من مصارف «وايلز فارغو» و«جي.بي مورغان تشايز» و«سيتي غروب» و«بنك أوف أميركا» و«ألاي فاينانشال» لتجنب ملاحقات لقيامها بعمليات مخالفة لمصادرة عقارات.

لاحقاً، سدد «جي.بي مورغان تشايز» 13 مليار دولار لتسوية خلافات على صلة بأدوات مالية تعتمد على قروض للرهن العقاري، و«بنك أوف أميركا» 11,6 مليار دولار بسبب أزمة الرهن العقاري، ثم سدد 9,5 مليارات دولار للوكالة الفيدرالية لتمويل الإسكان المشرفة على وكالتي إعادة تمويل الرهن العقاري «فاني ماي» و«فريدي ماك». سبق ذلك في حزيران 2011 أن دفع «بنك أوف أميركا» 8,5 مليارات دولار، تعويضاً لمستثمرين متضررين من ممارساته في مجال العقارات.

داخل الولايات المتحدة أيضاً، سدد «جي.بي مورغان تشايز» 1,7 مليار دولار، لأنه غض النظر عن ممارسات برنار مادوف الذي دين قضائياً بتهمة الاحتيال.

لا فرق لأميركي على «أعجمي»

كما في الداخل كذلك في الخارج. «كريدي سويس»، ثاني أكبر مصارف سويسرا، دفع غرامة 2,6 ملياري دولار بعد اعترافه بمساعدة أثرياء أميركيين على إخفاء ودائع عن مصلحة الضرائب الأميركية (IRS)، بينما سدد زميله «يو.بي.أس» في كانون الأول 2012 مبلغ 1,53 مليار دولار لإنهاء ملاحقات مرتبطة بالتلاعب بمعدل الفائدة (لايبور) اللندنية، وهي التهمة عينها التي دفع بموجبها الهولندي «رابوبنك» 1,05 مليار دولار في تشرين الأول 2013.

لبريطانيا أيضاً كان نصيبها من «الحملة»، حيث سدد «أتش.أس.بي.سي» العملاق 1,92 مليار دولار، كي يتجنب ملاحقات بتهمة المساهمة في نشاطات ذات صلة بتبييض الأموال.

كما يمكن لمصرف «سيتي غروب» أن يدفع غرامةً تراوح بين 7 مليارات و10 مليارات دولار، لمخالفة تتعلق بالاستثمار العقاري، وأسهمت في الأزمة المالية. ومن المتوقع أن يدفع «كومرتس بنك» الألماني مبلغاً يراوح بين 600 و800 مليون دولار، لتسوية تحقيقات بشأن تعاملات مع إيران ودول اُخرى.

وبسبب جرائم مماثلة لانتهاك الحظر، دفع المصرف الهولندي «آي.أن.جي» سنة 2012 مبلغ 619 مليون دولار، والبريطاني «ستاندارد تشارترد» 670 مليون دولار.

أما الفرنسي «بي.أن.بي باريبا» فقد طلب هذا الشهر من «جيه.بي مورغان تشايس آند كو» و«بنك أوف أميركا ميريل لينش» و«سيتي»، على الأقل، مساعدته على تسوية معاملات بالدولار الأميركي في مجال الطاقة العام المقبل، لضمان استمرار عمل وحدته الخاصة بتمويل المعاملات التجارية في هذا القطاع، بعد فرض حظر عليه لانتهاكه العقوبات الأميركية.

ووجد المصرف نفسه مضطراً لطلب العون من «زملائه» إثر تعليق إدارة الخدمات المالية في نيويورك، المعنية بتنظيم القطاع المصرفي، أنشطة «باريبا»، في تسوية المعاملات المتعلقة بالتمويل التجاري في مجال الطاقة على مدى العام القادم.

قضية «باريبا» أطاحت أواخر أيلول الماضي رئيسه، بودوان برو، الذي من المقرر أن يترك منصبه في 1 كانون الأول المقبل، وذلك بموجب الاستقالة التي تلت 3 أشهر من دفع غرامة قياسية في الولايات المتحدة بلغت 8,9 مليارات دولار (6,6 مليارات يورو) بسبب تعاملات مع السودان وإيران وكوبا.

وسرت أنباء عن أن التسوية تضمّنت مطالبة واشنطن المصرف بتسريح 30 كادراً، رغم نفي السلطات الأميركية مطالبتها بتنحية برو.

وتلاحق الوكالة الاميركية لضمان الودائع المصرفية مجموعة مصارف كبرى، لتلاعبها بنسبة الفائدة بين المصارف (إنتربنك)، وهي تضم البنوك الأميركية «جي.بي مورغان» و«سيتي غروب» و«بنك أوف أميركا»، والسويسريين «يو.أس.بي» و«كريدي سويس»، والبريطانية «أتش.أس.بي.سي» و«رويال بنك أوف اسكوتلاند» و«لويدز» و«باركليز»، والفرنسي «سوسيتيه جنرال»، والألماني «دويتشه بنك»، والكندي «رويال بنك أوف كندا»، والياباني «بنك أوف طوكيو- ميتشوبتشي يو.أف.جي»، علماً أن نسبة الفائدة بين المصارف هي نسبة مركزية تُحدد في لندن، ولها تأثير مهم على المنتجات المالية، ومن ضمنها التسليفات الممنوحة للأُسر والشركات.

والقاسم المشترك الأساسي في كل التسويات القضائية أن المصارف بادرت إلى دفع الغرامات المطلوبة، كي تفلت من ملاحقات قد تفوق تداعياتها على المدى الطويل قيمة الغرامات إيّاها، لأنها تضر بسمعة المؤسسة قبل كل شيء.

السياسة على الخط

ولأن للمؤسسات المالية حاميتها السياسية من حكومات الدول المعنية، أفضت قضية «باريبا» إلى خلاف بين واشنطن وباريس، تخلله تهديد فرنسي رسمي في حزيران الفائت بعرقلة المفاوضات التجارية بين الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة، إثر رفض الرئيس أوباما التدخل في الملف القضائي المتعلق بأكبر المصارف الفرنسية، فضلاً عن اعتبار أن العقوبات غير متكافئة وقد تؤدي إلى زعزعة النظام المالي الأوروبي، علماً أن استخدام الدولار وحده يسمح للسلطات الأميركية بأن يكون لها حق إبداء الرأي وفرض الغرامة، وهو ما أثار غضب السلطات الفرنسية، ودفعها لدعوة أوروبا إلى حشد الطاقات للدفع قُدُماً باستخدام اليورو.

في الاتجاه عينه، يندرج إعراب المصرف المركزي الألماني عن قلقه من الغرامات التي تدفعها المصارف الأوروبية إلى الولايات المتحدة، باعتبارها مصدر ضغط كبير على المؤسسات المالية.

ولأن الاقتصاد أداة رئيسية في التخطيط السياسي، فضلاً عن كونه غالباً محركاً لهذا التخطيط، برز استياء من عدة عواصم عالمية من تزايد الضغوط الأميركية بأكثر من وسيلة لترسيخ هيمنتها الاقتصادية على العالم مع انحسار نفوذها السياسي في أكثر من موقع جغرافي حول المعمورة.

وفي أحدث مثال على ذلك اتهام رئيسة الأرجنتين كريستينا كيرشنر قبل أيام القضاء الأميركي وأطراف محلية بتنفيذ مؤامرة اقتصادية للحيلولة دون سداد بوينس آيريس ديونها، بعدما فرض القضاء الذي بتّ خلافاً مرتبطاً بإفلاس الأرجنيتن سنة 2001، على هذا البلد تعليق الدفع للدائنين ما دام لم يبدأ بسداد ديون صندوقي مضاربات استثماريين.

وإلى جانب دور القضاء في تغريم المصارف لخرقها العقوبات أو لأسباب اُخرى سبق ذكرها، سرى منذ بداية تموز الماضي قانون الامتثال الضريبي (فاتكا) الذي يتيح للولايات المتحدة مطالبة عشرات آلاف البنوك بمعلومات مفصلة عن حسابات رعاياها في الخارج، مع ما ينطوي ذلك على خرق لسيادة الدول، خاصة تلك التي تعتمد السرية المصرفية، والتي لا تجد بُدّاً من تنفيذ مقتضياته. وهذا ما يتيح لواشنطن قدرة الضغط بقبضة «ناعمة» جديدة هي قادرة على الاستفادة منها في سياستها الخارجية.