يتخبط لبنان في وضع اقتصادي ومالي صعب تفاقم مع ازدياد المواجهات المُسلحة بين الجيش اللبناني و”حزب الله” من جهة، والمسلحين في جرود عرسال وبريتال من جهة أخرى في الوقت الذي تشير فيه كل التحليلات والتوقعات الى ان هذه الأزمة لا تزال في بداياتها وقد تطول مع استمرار الازمة في سوريا ، وتضاف الى ذلك تداعيات الانقسامات السياسية الداخلية التي منعت انتخاب رئيس جديد للجمهورية حتى اليوم.
أمام غياب أي خطط اقتصادية ومالية لمواجهة التحديات الحالية والمستقبلية، بدأت تظهر الى العلن سلسلة سيناريوهات سيئة قد تطاول المالية العامة والميزان التجاري والتضخم والبطالة وغيرها من الازمات التي لن يكون بمقدار الاقتصاد الوطني جبهها حتما في غياب أي رؤية اقتصادية شاملة وواضحة.
هذه الهواجس نقلتها “النهار” الى وزير الاقتصاد والتجارة آلان حكيم الذي أبدى تخوفه من تطور الأوضاع الاقتصادية في ظل الشلل الناتج من الأوضاع الأمنية والشغور الرئاسي وقضية العسكريين المختطفين ، وانعكاس هذا الامر على الاقتصاد ركوداً مستمراً مع ضعف مُسجل على مستوى الاستثمارات التي تشكل مع الاستهلاك أساس الاقتصاد. ويقول حكيم: “ان ضعف الاستثمارات وتراجعها بشقيها الداخلي والخارجي يؤديان الى تآكل سوق العمل الذي تعاني ضغوطا ناتجة من العمالة السورية الخانقة والتي أصبحت تشكل خطراً كيانياً على لبنان واقتصاده، وهذه الاستثمارات أصبحت أكثر من حاجة لتلبية الاستهلاك الذي يزداد بفعل تحويلات رؤوس الأموال من المغتربين اللبنانيين الى ذويهم في الداخل.” ويضيف: “للأسف 90% مما يستهلكه المواطن اللبناني هو مستورد من الخارج وهذا الأمر يُثبت الحاجة القصوى اليوم الى زيادة الاستثمارات على كل الصعد”. وعن مدى وأسباب تراجع هذه الاستثمارات، يؤكد حكيم أن الاستثمارات الخارجية المباشرة (FDI) تراجعت بنسبة 23% بحسب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية الـ UNCTAD ، كما تراجعت قروض مؤسسة “كفالات” 4,15% في الاشهر الثمانية الأولى من 2014 نسبة الى الفترة نفسها في العام 2013 والتي تراجعت بدورها 21,3% عن 2012. ويعتبر ان: “هذا الأمر مُحزن ويدل على تآكل في الهيكلة الاقتصادية بالتزامن مع ضعف الدولة اللبنانية في تمويل مشاريع استثمارية.” أما عن اسباب هذا التراجع، فيشير حكيم الى أن الوضع الأمني الناجم عن الأزمة السورية يتحمل المسؤولية بالدرجة الأولى لكنه ليس الوحيد، فالشغور الرئاسي لعب دوراً مهما أيضاً في فقدان ثقة المُستثمر في الاقتصاد ودفعه الى تحويل استثماراته الى بلدان أخرى مجاورة كقبرص والعراق وتركيا، ويضاف الى ذلك الشلل الحاصل في مجلس النواب وامكان تمديد ولايته وما يحمل ذلك من تداعيات سيئة على الثقة بالاقتصاد، وهي خطوة لسيت مقبولة في الاقتصادات الحرّة كاقتصاد لبنان بحسب حكيم. وفي هذا السياق يقول: أخيراً، أتت المخاوف من امكان اقرار سلسلة الرتب والرواتب التي رفعت من المخاوف لدى المستثمرين لناحية زيادة تكاليف الانتاج ما يدفعهم الى اختيار بلدان أخرى كتركيا والعراق حيث اليد العاملة رخيصة والمناخ الاستثماري أفضل”.
وعن الخطوات التي تقوم بها الحكومة وخصوصاً وزارة الاقتصاد لمواجهة هذه الازمة، يلفت حكيم الى أن “هناك مجموعة من الخطوات التي يجب العمل على انجازها وعلى رأسها:
– دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، عصب الاقتصاد، بقروض استثمارية مدعومة من الدولة عبر مصرف لبنان لكي يتسنّى لها تأدية دورها الأساسي في الاقتصاد أي محاربة الفقر ودعم النمو المُستدام.
– اقرار قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص لكي نُشجّع الشركات التي تملك سيولة فائضة بالاستثمار في البنية التحتية العامة والتي تُعتبر بأشد الحاجة الى خبرة وأموال القطاع الخاص للخروج من الازمة التي تعانيها والسير على طريق التطور والازدهار.
– تحرير القطاعات التي يحكمها الاحتكار كالكهرباء والاتصالات وغيرها من المؤسسات والادارات التي تضرب الاقتصاد وتُثقل المالية العامة بقلة فعاليتها وانتاجياتها والهدر الموجود فيها والتكاليف العالية التي تتحملها.
كل ذلك يجب أن يتواكب بالتزامن مع سياسة ضريبية مؤاتية تسمح في اعادة جذب الاستثمارات الأجنبية الى الداخل اللبناني”.
وفي ما يخص القطاعات التي يجب العمل على تشجيع الاستثمارات فيها، يعتبر وزير الاقتصاد أن اختيار هذه القطاعات يجب أن يكون وفق مدى تحميل القطاع خزينة الدولة لتكاليف يمكن الاستغناء عنها أو خفضها، وعلى رأسها القطاع الحراري عبر اعتماد الاستراتيجيا الحرارية التي وضعتها وزارة الاقتصاد والتي تسمح بالتخلي تدريجاً عن الطاقة الأحفورية المكلفة للدولة ولخزينتها (5 مليارات دولار سنوياً). وأيضاً بحسب حكيم، من المهم تشجيع الاستثمارات في القطاعات التي ترفع من حجم العجز في الميزان التجاري ، اي بمعنى أخر، يجب الاستثمار في الداخل ضمن القطاعات التي يستهلك اللبناني انتاجها عبر الاستيراد من الخارج، ما يساهم في كسر هذا العجز وتحويل الاستهلاك الى الماكينة الاقتصادية اللبنانية داخلياً.
وعن مدى تأثير الوضع الأمني والسياسي على المناخ الاستثماري ومدى قدرة الحكومة على لجم هذه التأثيرات، رأى حكيم أنه من المهم أن يعمد الافرقاء الى تحييد الاقتصاد عن السياسة لأن، كل القوى السياسية تريد اقتصاداً قوياً وهذا الأمر يجب ترجمته بمؤتمر اقتصادي انقاذي ستدعو له وزارة الاقتصاد قريباً بالتعاون مع كل الأفرقاء السياسيين والاقتصاديين. وسيخرج هذا المؤتمر منه باستراتيجيات صناعية، زراعية، بحثية، سياحية وغيرها تشمل جميع القطاعات، ما يسمح باستمرارية السياسات الاقتصادية مع تغير الحكومات كما سيُشكل عازلاً بين السياسة والاقتصاد.
ويختم حكيم حديثه لـ “النهار” بالتأكيد على أهم الخطوات التي يجب التعجيل فيها حاليا، وهي انتخاب رئيس للجمهورية، ووضع قانون انتخابي جديد يمهد لاجراء انتخابات نيابية، وأخيراً دعم الجيش والقوى الأمنية في بسط السيادة على كل الأراضي اللبنانية. وهذه الخطوات قد تشكل خطوة أولى نحو الخروج من النفق المظلم لنرسو على بر الامان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.