تثبت الوقائع ان اعظم الجرائم التي ارتكبت في العشرين عاما الماضية كانت بتواطؤ مع المصارف الغربية ذات الاصول الترليونية، ابتداء من جرائم الارهاب الدولي المدعومة من الدول والمنظمات الارهابية والعصابات الدولية، وانتهاء بتجار المخدرات والقتلة المأجورين الذين ثبت تواطؤ عدد من المصارف معهم لتسهيل تبييض الاموال، كما حدث في واقعة اتش اس بي سي واستحواذه على احد المصارف المحلية في المكسيك والذي وصلت به فجاجة الوقاحة والإجرام حد هندسة مراكز الايداع في فروعه المتواجدة في الاحياء السكنية المنتشر بها تجارة المخدرات، بما يناسب حجم حافظات حفظ النقد المستخدمة من تجار المخدرات، كما اوضحت ذلك التحقيقات بشكل قطعي، ناهيك عن خضوع فروعه هذه لحماية تجار المخدرات انفسهم، لان الشرطة لا تقوى على التدخل في هذه الاحياء المكسيكية المشبوهة.
مصرف اوربي آخر وصل به الأمر حد تقديم دورات تدريبية لعملائه (المتميزين) في كيفية اختراق قوانين الحضر الدولية، وقمة الولوج والانغماس في الجريمة قيام مصرف بي ان بي باريبا بأعمال البنك المركزي لإحدى الدول الإرهابية. اما الجرائم الاقتصادية فحدث ولا حرج، واشهرها على الإطلاق قيام باركليز البريطاني بفضيحة التلاعب بأسعار الفائدة (اللايبور) ناسفا نظرية ان اسعار الفوائد تحددها قوى العرض والطلب.
تحدث بنجامين لويسكي، رئيس سلطة مال ولاية نيويورك، قبل اسابيع في احد المؤتمرات المصرفية بما مفاده ان الممارسات المصرفية الوقحة والمجرمة لا يمكن انهاؤها بدون تحميل المصرفيين نتائج اعمالهم، الا ان سلطة المال في نيويورك لا تملك حق اصدار عقوبات جنائية او احكام بالسجن. ولكن الحقيقة ان سلطة المال في نيويورك التي تتحكم في اصدارات تراخيص القيام بأعمال دولية لأي مصرف في العالم تملك حق انهاء مهنية اي مصرفي في العالم، من خلال اشتراط عدم توظيف اي شخص تراه سلطة المال في نيويورك غير مؤهل او متلاعبا او مراوغا او لأي سبب آخر. والحقيقة ان سلطة المال في نيويورك بدأت استخدام هذا السلاح مطلع هذا الشهر مع المصرف التجاري الألماني (كوميرس بنك) والذي تملك حكومة المانيا نصف عدد اسهمه، والذي يتجاوز عمره المائة سنة، والذي تتجاوز فروعه في العالم الألف فرع.
فالمصرف الألماني هذا قام بعمليات مالية لصالح دول ارهابية على رأسها ايران، وقام بتمرير عمليات بالدولار واخفاء ذلك بطريقة غبية مفضوحة، وهكذا هم المجرمون دائما، يعتقدون ان بإمكانهم اخفاء جرمهم، والنتيجة دائما افتضاح امرهم على مرأى الجميع. انتهت التحقيقات وتوصل الجميع لتسوية هي الأولى من نوعها، فصل كافة المصرفيين الذين تورطوا في العمليات المجرمة، وتغريم البنك 650 مليون دولار لعدم قيامه بواجباته الرقابيه اللازمة. الغريب هنا ان محامي البنك يعتقدون ان من المستحيل فصل هؤلاء الموظفين لأن نقابات العمال في المانيا تمنع فصل اي موظف لم يقم بمخالفة القوانين الألمانية، الا ان سلطات المال في نيويورك خيرت البنك بين الحفاظ على رخصة عمله من خلال فصل هؤلاء المجرمين الذين يلبسون ثياب المصرفيين، او سحب رخصة العمل من البنك مما يعني منعه من القيام بأي تعاملات بالدولار، بمعنى آخر انهيار اعماله الدولية. ليس هناك اوقح من الغريب الذي يمارس ما يخالف قوانين الدولة التي يتواجد بها. وحين ينتج عن هذه المخالفات ضحايا ابرياء بمئات الألوف فالأمر يتحول من ممارسة وقحة الى ممارسة مجرمة.
الحقيقة ان ما تقوم به سلطات المال في نيويورك ليس سوى تعرية لواقع السلطات المالية في الدول الأوروبية التي لا تحرك ساكنا لممارسات مصارفها، ولم تبالغ ابدا عضو الكونجرس الأمريكي عن ولاية نيويورك السيدة كارولاين مالوني حين ذكرت ان «كل عملية مصرفية كارثية تحدث في لندن»، وتصريح عضو الكونجرس هذا كان قبل تحقيقات سلطة المال في نيويورك، والحقيقة التي كشفتها التحقيقات المالية الأخيرة تثبت ان كل عملية مصرفية كارثية تحدث في أوروبا، وكأنها تقوم بذلك بإيعاز مباشر من حكوماتها وبطمأنينة غريبة لا تثير الا اشمئزاز كل مصرفي شريف. وتبلغ الفضيحة قمتها حين تدافع البنوك المركزية الأوروبية عن أفعال مصارفها ذات التأثيرات الكارثية.
ان نتائج تحقيقات سلطات المال في نيويورك تحتم على كافة الدول التي تتواجد بها فروع للمصارف المدانة بدء تحقيقات لمعرفة مدى التزامها بقوانين وانظمة الدولة من عدمه. فهذه المصارف ثبت عدم تورعها عن القيام بأي شيء يوفر لها الأرباح، ويحقق لدولها مصالح سياسية (معينة). كما ان بدء تحميل المصرفيين المتورطين في العمليات المالية نقطة تحول مهمة في مسار الاصلاحات المصرفية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية. إصلاحات نرجو ان يتولد عنها مستقبل مصرفي اكثر استقرارا ونزاهة.