أظهر تحليل اقتصادي لـ«الشرق الأوسط» نمو نسبة الدين المحلي لإجمالي الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الحالية بعد ثورات الربيع العربي في عامي 2011 و2012، لثلاث من دول الربيع العربي، والتي توفرت عنها بيانات مالية ببنوكها المركزية ووزارات المالية، ثم تباطأت تلك النسبة لكل من تونس واليمن، وما زالت ترتفع في مصر.
وطرح الخبراء أفكارا غير تقليدية للخروج من أزمة الدين العام التي تواجه الدول العربية، عن طريق زيادة الإيرادات من خلال دمج القطاع غير الرسمي إلى القطاع الرسمي، وتطبيق نظام موازنة البرامج والأداء بالإضافة لتشجيع المشاريع الصغيرة ومتوسطة الحجم ومحاربة الفساد الإداري واستخدام بدائل تمويلية جديدة مثل الصكوك.
والدين العام (public debt) هو مصدر من مصادر الإيرادات العامة، تلجأ الدولة إليه لتمويل نفقاتها العامة عندما تعجز عن توفير إيرادات أخرى، ولا سيما من الضرائب ومصادر الدخل الحكومية الأخرى، فتقترض إما من الأفراد أو من هيئات داخلية أو دولية أو من دول أجنبية.
وهذا العجز الذي يواجه الدول لا بد من تسويته، لأنه عبارة عن مرتبات لموظفين حكوميين لا بد من دفعها، وفواتير لمستلزمات أساسية مثل الأدوية في المستشفيات، أو مشاريع عامة مثل شق الطرق، وإنشاء المدارس، وخدمات لمصالح حكومية، لذا تلجأ الدول للاقتراض مع قيامها بزيادة الإنتاج لتخفيض هذا الاقتراض بشكل تدريجي.
ومع هذه الزيادة الكبيرة، ليس في الدول العربية فقط بل لمعظم الدول الفقيرة، حاول صندوق النقد الدولي حل تلك الأزمة عن طريق تدشين سياسة جديدة لسقوف الدين في العام المقبل، ستعطي الدول الأكثر فقرا قدرا أكبر من المرونة لإنفاق الأموال على أولوية التنمية من دون تقويض قدرتها على الوفاء بديونها، وذلك عن طريق تقديم منح لا ترد من المانحين وبذلك لن تؤثر على قدرتها على الوفاء بديونها.
وأظهرت البيانات التي جمعتها الوحدة الاقتصادية لـ«الشرق الأوسط» نمو نسبة الدين المحلي لإجمالي الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الحالية لتونس بنسبة 43.9 في المائة مع نهاية عام 2011، مقارنة مع 40.2 في المائة خلال عام 2010، ومواصلة الارتفاع إلى 46.4 في المائة بنهاية 2012، ثم تباطأت تلك النسبة إلى 44.38 في المائة خلال عام 2013.
وكذلك كان اليمن الذي قفزت فيه النسبة إلى 43.8 في المائة خلال عام 2011، من 38 في المائة خلال عام 2010، ثم إلى 51.7 في المائة مع نهاية عام 2012، إلا أنها تباطأت إلى 49.95 في المائة خلال عام 2013.
واتفقت مصر مع تونس واليمن في نمو ذلك المؤشر، إلا أنها اختلفت معهما خلال عام 2013 الذي واصلت فيه النمو إلى 87.1 في المائة، مقارنة مع 80.3 في المائة مع نهاية السنة المالية 2012.
وقابل هذا الارتفاع في نسبة الدين المحلي بعد ثورات الربيع العربي، تباطؤ في الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة في مصر، وانخفاض في كل من تونس واليمن خلال عام 2011، ثم عاد للنمو مرة أخرى بمعدل أسرع في عام 2012.
وهذا التباطؤ والتراجع في النمو الاقتصادي لدول الربيع العربي يعود لتوقف اقتصادات تلك الدول خلال عام 2011، عام ثورات الربيع العربي، مع بحث حكوماتها عن موارد لتمويل عجز الموازنة العامة، مما دفعها لزيادة مديونياتها الأمر الذي أظهر ارتفاع نسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير في عام 2011، ثم عام 2012، وتباطؤها في كل من تونس واليمن اللذين شهدا استقرارا نسبيا في عام 2013.
ولا يمكن قياس نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي إلا بعد مقارنتها بمقياس عالمي، وهو الحد الدولي الفاصل الذي يشير لاستقرار الدين العام للدول، والذي تبنته بلدان مجلس التعاون الخليجي في عام 2005، والذي سمى بـ«معاهدة ماسترخت» حول التقارب النقدي.
وتعد تلك المعاهدة هي الاتفاقية المؤسسة للاتحاد الأوروبي وجرى الاتفاق عليها في مدينة ماسترخت الهولندية ودخلت حيز التنفيذ في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1993، ومن شروطها المالية عدم زيادة الدين العام على 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
وكانت أكثر الدول العربية إفصاحا عن بياناتها المالية هي مصر، حيث أظهرت البيانات الصادرة من البنك المركزي ووزارة المالية تخطي هذا الحاجز وتسارع معدل نموه على مدار الثلاث سنوات التالية لثورة يناير (كانون الثاني)، حيث ارتفعت تلك النسبة إلى 91 في المائة حتى نهاية يونيو (حزيران) 2011، ثم إلى 92 في المائة حتى نهاية يونيو 2012. وقفزت تلك النسبة إلى 104 في المائة مع نهاية يونيو 2013، ثم ارتفعت إلى 105 في المائة في يونيو 2014، ليصل إجمالي الدين العام إلى 2.13 تريليون جنيه مصري (الدولار الأميركي يساوي نحو 7 جنيهات مصرية). واعتمدت الحكومة المصرية في تمويل عجز ميزانيتها على الدين العام المحلي، حيث بلغت نسبته من إجمالي الدين العام 85 في المائة ليصل إلى 1.82 تريلون جنيه بنهاية يونيو 2014، مقابل 15 في المائة للدين العام الخارجي والذي بلغ 45.3 مليار دولار بنهاية مارس (آذار) 2014، مقارنة مع 38.4 ملیار دولار في مارس 2013، وأغلب الزیادة جاءت في صورة مساعدات من دول الخلیج بشروط ميسرة.
وارتفاع نصيب الفرد من الدين العام 16 في المائة إلى 25 ألف جنيه مصري في نهاية يونيو 2014، مقارنة مع 21.56 ألف جنيه في نهاية يونيو 2013، قافزا من 17.53 ألف جنيه في نهاية يونيو 2012.
ويتمثل الدين العام المحلى في الدين الحكومي ومديونية الهيئات العامة الاقتصادية وبنك الاستثمار القومي، ويعني ما اقترضته الجهات الثلاث بالعملة المحلية الجنيه المصري، والخزانة العامة بوزارة المالية هي المسؤولة عن الدين المطلوب لتمويل عجز الموازنة العامة للدولة.
أما الدين الخارجي بمفهومه الشامل، فهو ديون مصر في الالتزامات القائمة بالعملة الأجنبية على الأفراد أو الجهات المقيمة في مصر، وغير المقيمين الأجانب مؤسسات أو حكومات أو أفرادا. ويعد من الديون طويلة الأجل من المصادر الرسمية والخاصة والديون قصيرة الأجل وتسهيلات صندوق النقد الدولي والديون الخاصة غير المضمونة.
وأكد خبراء استطلعت «الشرق الأوسط» آراءهم، أن ارتفاع الدين العام لدى الدول العربية بهذا الشكل الكبير يرجع إلى اعتماد تلك الدول على الديون في ظل توقف الإنتاج خلال فترات الاضطرابات، مع استمرار ذات القوانين التي لا تشجع على الاستثمار في هذه الدول، وارتفاع مؤشرات الفساد.
وعزا الدكتور بهجت أبو النصر، رئيس قسم البحوث بجامعة الدول العربية، ارتفاع الدين بهذا الشكل الضخم إلى الفساد المستشري في عدد من الدول العربية إلى الأنظمة المعقدة في التعامل مع الاستثمار، أحد الروافد الهامة والذي يخفض من الاستدانة. وقال أبو النصر إن التضارب الواسع بين الرؤية النظرية والتطبيق الفعلي يدفع الاقتصاد بشكل عام للركود في الدول العربية، وعلى سبيل المثال مصر تواجه تعقيدات شديدة في تشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة والتي تستطيع دفع عجلة الاقتصاد.
وأضاف أبو النصر أن التجربة الصينية في المشاريع الصغيرة والمتوسطة تظهر أهميتها لدفع الاقتصاد، حيث بلغت نسبة صادرات تلك المشاريع 84 في المائة من إجمالي الصادرات الصينية، حيث ألزمت الصين البنوك بتقديم حصة معينة من إقراضها للمشاريع الصغيرة والمتوسطة بسعر فائدة أقل مما تقدمه لكبار المستثمرين، وأنشأت مدنا كاملة لها.
وتخوف أبو النصر من اعتماد الدول العربية على الدين الداخلي الذي يواجه مخاطر أقل من الدين الخارجي إلا أنه يؤدي لتشدد البنوك في تقديم الإقراض للأفراد والشركات مما يعيق دفع عجلة الاستثمار.
وأكد أبو النصر على أن الدين أصبح مثل كرة الثلج يكبر مع الوقت والحل هو تقديم بدائل تمويلية للموازنة العامة للدولة تختلف عن الأدوات الموجودة حاليا، مثل طرح فكرة الصكوك التي مولت بها مطارات ومدن كاملة في الخارج، وتبني مشروع قومي لمحاربة الفساد.
وقالت الدكتورة يمنى الحماقي، أستاذ الاقتصاد بجامعة عين شمس، إنه ينبغي على الدول التوجه نحو الإنتاج وزيادة الإيرادات لمجابهة المصروفات المرتفعة؛ وإلا فستواصل اقتصادات تلك الدول الاعتماد على سياسة الاقتراض. ونوهت لمعاناة الاقتصاد المصري من ركود وعجز متزايد في عدم وجود إيرادات تكافئ هذا العجز، مما يدفع الحكومات المتعاقبة للاستدانة بشكل متزايد لتلبية متطلباتها من النفقات.
وأضافت الحماقي أن «الحكومة المصرية اتخذت إجراءات مثل كف غول الدعم، وخاصة في مجال الطاقة، وزيادة الإيرادات عن طريق الضرائب من ضريبة عقارية وضريبة القيمة المضافة، وذلك لإيجاد مصادر أخرى تواجه بها العجز المتزايد». كما أكدت على أهمية قيام الحكومة المصرية بدمج القطاع غير الرسمي إلى القطاع الرسمي، وهو الذي يمثل حسب التقديرات 60 في المائة من حجم الاقتصاد المصري.
وترى الحماقي أن تطبيق موازنة البرامج والأداء سيؤدى لبث الطمأنينة لكفاءة النفقات في ظل عدم كفاءة الجهاز الحكومي في إداراتها مما يؤدي في النهاية لرضا المواطنين.
وشددت على أن ارتفاع الدين الخارجي يحمل في طياته الكثير من المخاطر، ويجب عند اللجوء إليه استخدام أساليب التحوط التي تحمي تلك الأموال والقيام بإنفاقها على مشاريع مدروسة بشكل جيد جدا يضمن سدادها.