يدرك أبناء طرابلس أن المؤامرة على مدينتهم ليست أمنية فقط، بل هي تهدف الى ضرب اقتصاد الفيحاء وصولاً الى الانهيار الشامل، وبالتالي السعي الى إفلاس مؤسساتها التجارية ورفع نسبة البطالة، وإفقار أهلها لا سيما الفئة الشبابية ليسهل استخدامها في مشاريع سياسية وأمنية تخدم جهات معينة.
أكثر من عشرين موسماً تجارياً متتالياً خسرته طرابلس خلال السنوات الماضية، بين أعياد الفطر والأضحى والميلاد والفصح، حيث كانت تسبق كلاً من هذه المواسم توترات أمنية تساهم في عزل المدينة عن محيطها، وتحول دون توافد أبناء المناطق الشمالية إليها وهم الذين كانوا يساهمون تاريخياً في تحريك عجلة الاقتصاد.
خارج السياق
بات الطرابلسيون على قناعة أن بعض هذه التوترات مفتعل بهدف تعطيل المواسم التي ينتظرها التجار من عام الى عام، خصوصاً أن الخطة الأمنية التي أقفلت المحاور في المناطق التقليدية الساخنة الى أجل غير مسمّى، لم تشفع في تحريك العجلة الاقتصادية، فشهدت طرابلس عشية عيد الفطر تحركات من خارج السياق وقطع طرقات أدخلت الخوف الى قلوب زوار المدينة، وترافق عيد الأضحى مع تنامي الحديث عن مجموعات مسلحة متطرفة وسيناريوهات أمنية مختلفة شلّت حركة الأسواق وعطلت مظاهر العيد.
ورقة التوت
لم يعُد من الممكن في طرابلس الحديث عن نسب التراجع في الحركة التجارية والمقارنة بينها، بل إن الأمور بلغت منحى خطيراً بدأ يدفع بعض المؤسسات الى إقفال أبوابها، بينما كثير من التجار لا يزالون يغطون أنفسهم بـ«ورقة التوت»، ويتحملون الخسائر المتتالية، ويدفعون من اللحم الحي عبر مدخرات سابقة منها ما نفد، أو يكاد، فضلاً عن إفلاسات غير معلنة.
ما يزيد الطين بلة في الوضع الاقتصادي في طرابلس هو الأسعار المرتفعة جداً لاستثمار المحال التجارية التي تتراوح بين 1500 الى 2500 دولار شهرياً في الأسواق والشوارع التي تعتبر راقية، وقد دفع ذلك «جمعية تجار طرابلس» الى إطلاق صرخة في العام الماضي ناشدت فيها الملاكين تخفيض قيمة الاستثمار حرصاً على ديمومة المداخيل للطرفين، لكن معظم الملاكين لم يتجاوبوا مع هذه المناشدة.
وأدى ذلك الى إقفال نحو 15 في المئة من المؤسسات والمحال التجارية في شارعَي قاديشا ونديم الجسر ومحيطهما، وانتقال أصحابها الى أماكن أقل كلفة من الناحية الاستثمارية، ما يؤشر في حال استمرّ الوضع على حاله، الى إيجاد أسواق رديفة في مناطق غير مصنفة تجارياً، أما شارع عزمي فيبقي على كل مؤسساته مفتوحة لأن المحال معظمها إما يملكها التجار، أو أنها تخضع لقانون الايجارات القديم.
نقل محال
كما انتقلت عدوى الإقفال والانتقال، الى بعض أسواق طرابلس القديمة التي فقدت وظيفتها بفعل الشائعات التي تطلق حولها، والإشكالات الأمنية التي تشهدها بين الحين والآخر، خصوصاً سوق التربيعة ومحيطه، إضافة الى سوق القمح في الحارة البرانية وذلك بسبب التوترات المستمرة في التبانة، حيث سجل قيام بعض التجار بنقل محالهم المعدة لبيع مختلف أنواع الحبوب الى شارع المئتين، بعدما فقدوا الأمل في عودة الزبائن من طرابلس وخارجها الى هذا السوق الأرخص والأكثر شهرة في طرابلس.
لم تقف الأمور عند هذا الحد المأساوي، بل إن كثيراً من التجار بدأوا يواجهون مشاكل مالية كبيرة مع المصارف، لعدم قدرتهم على سداد الديون المتوجبة عليهم، إضافة الى مشاكل بين التجار أنفسهم لجهة الإخفاق في سداد ثمن البضائع أو دفع الديون التي يُصار في كل مرة الى تدويرها.
أسواق بديلة
هذا الواقع الكارثي مردّه الى التوترات الأمنية المتلاحقة التي تشهدها طرابلس، والى إحجام أبناء الأقضية الشمالية عن النزول الى المدينة بعدما أوجدوا أسواقاً بديلة ومستقلة لهم في أقضيتهم التي باتت تتمتع بشبه اكتفاء ذاتي على هذا الصعيد لا سيما في عكار والضنية والكورة التي كانت طرابلس تعتمد كلياً على حركتهم باتجاه أسواقها، فضلاً عن الغياب الكامل للسياحة التي قضت عليها جولات العنف السابقة والشائعات الحالية التي تبشر يومياً بعودتها على وقع الأحداث الجارية في عرسال.
تنامي البطالة والفقر
طبعاً فإن ما يشهده اقتصاد وتجارة طرابلس من تراجع ومن صرف عمال من مؤسسات تمّ إقفالها، أو استبدال أكثرية عمالها بعمال سوريين يقبلون بأقل من نصف راتب العامل اللبناني وبدوام أطول، كل ذلك أدّى الى تنامي نسبة البطالة التي بلغت نحو 40 في المئة بين فئة الشباب، ونسبة الفقر التي تجاوزت الـ60 في المئة من عائلات المدينة.
ويؤكد عدد من التجار لـ«السفير» أن موسم عيد الأضحى الأخير كان الأسوأ على الإطلاق، وأن ما يُسمّى بـ«الإجر الغريبة» قد غابت تماماً عن المدينة، وقد ساهم في ذلك أيضاً، قطع الطرقات من القلمون جنوباً ومن عكار شمالاً، فضلاً عن الاشكالات اليومية والاعتداءات على الجيش اللبناني.
ويلفت تجار الانتباه الى أن الأمور بلغت حافة الانهيار، وأن كثيراًَ من المؤسسات انهارت لكنها لم تعلن عن ذلك، مناشدين القيادات السياسية والدينية والأمنية والهيئات الاقتصادية العمل السريع على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وقبل فوات الأوان، مؤكدين أن طرابلس تحتاج الى الأمن، والى إعادة الثقة الى كل زوارها ليتخلوا عن حذرهم من زيارتها والتسوق منها.
مدينة مظلومة
يقول أمين عام «جمعية تجار طرابلس» غسان الحسامي لـ«السفير»: إننا نسير على طريق الجلجلة، وربما نصل الى الهاوية إذا لم تتضافر كل الجهود من أجل حماية طرابلس وتحييدها عن كل التوترات وتطبيق الخطة الأمنية، بما يعيد الاستقرار إليها، ويُعيد زوارها الى أسواقها.
يضيف الحسامي: نحن اليوم أمام مدينة مظلومة، الأمن فيها مفقود، والسياحة معدومة، والبلدية عاجزة، والنظافة غير مؤمنة، والمخالفات مستشرية، فكيف يمكن لطرابلس أن تنهض اقتصادياً وتجارياً، والمطلوب اليوم وقفة شريفة من وسائل الإعلام لإظهار قدرات طرابلس وعوامل الجذب فيها وتشجيع المواطنين على زيارتها، والمطلوب أيضاً من وسائل إعلام معينة أن تكف عن تحريضها على مدينتنا، وأن تتوقف عن تشويه صورتها، وعلى الدولة أن تتدخل بشكل مباشر لحماية طرابلس من الافتراءات الكثيرة، لكن يبدو أن الدولة متحللة، وهي بلا رأس، وغير قادرة على تحرير بعض العسكريين، فكيف لها أن تنقذ عاصمة لبنان الثانية.
وإذ يؤكد الحسامي أن كل ما يجري في طرابلس هو مفتعَل، يدعو القيادات السياسية والاقتصادية الى تحمل مسؤولياتها، والى الإسراع في تشكيل صندوق اقتصادي ـ اجتـــماعي للمدينة، وإلا فإن الانهيار سيكون شاملاً ولن يوفر أحداً.