لويس حبيقة
اعتمدت دول العالم منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وبتوجيه من الولايات المتحدة والمؤسسات الدولية، علاج الرأسمالية لمعالجة مشاكل النمو والبطالة وحتى التنمية. منذ ربع قرن، تطبق أكثرية الدول الليبيرالية الاقتصادية في سبيل الاصلاح. احدى أهم ركائز هذا التحول، تخفيف دور الدولة في الاقتصاد خدمة لعاملين مهمين. أولهما لأنه يساهم في تفعيل الاقتصاد ورفع الانتاجية، وبالتالي النمو كما الحركة الاقتصادية العالمية. ثانيا لأنه يخفف فرص الفساد والضبابية الادارية التي تنمو مع وجود قطاع عام كبير.
هنالك اعتقاد عام يشير الى أن الليبيرالية تسهل عمل القطاع الخاص، اذ تخفف العوائق الادارية أمام نموه. ومن أهم نتائج هذه العقيدة تطبيق برامج الخصخصة في كل دول العالم، بدأ من بريطانيا الى كل دول الاتحاد السوفياتي السابق وأوروبا الشرقية وغيرها. تحويل ملكية أو ادارة المؤسسات العامة الى القطاع الخاص كان من المفروض أن ينقل الدول والاقتصادات من مستوى نام الى آخر متقدم ومتطور، بالاضافة الى أنه يشجع التنمية تدريجاً بسبب ارتفاع الانتاجية العامة.
من أهداف الليبيرالية توسيع أعمال القطاع الخاص وأحجامه في كل الدول على حساب العالم الذي تعشعش فيه الفساد عالمياً. ترافق توسيع القطاع الخاص مع قوانين واجراءات جديدة تشجع على المنافسة منعاً للاحتكارات وحماية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة كما للمستهلك. المعلوم أن القطاع الخاص، اذا ترك لنفسه، ينتج حكماً كباراً ينتهكون الحرية ويقضون على المنافسة التي هي أساس النظام الاقتصادي الحر. هنالك اذا ضرورة لوضع قوانين صارمة تمنع عمليا أن تأكل السمكة الكبيرة المنافسين الأصغر حجماً، وبالتالي تقضي على المنافسة وتعزز الاحتكارات. ليست هنالك أي شركة في العالم لم تحاول القضاء على المنافسة، لكن القوانين في العالم الغربي خصوصاً منعتها وفرضت عليها عقوبات مكلفة. الليبيرالية الاقتصادية ليست فقط حرية، انما أيضاً ضوابط صارمة موضوعة كي تستمر الحرية في العمل والوجود.
هنالك شعور عالمي اليوم أن الليبيرالية تخطت الحدود النظرية الموضوعة لها، وأنتجت خسائر كبرى على الشعوب وبخاصة الفقراء. هذا لا يعني أن هنالك عودة الى الشيوعية أو الى الاشتراكية القاسية، انما هنالك عودة الى دور اقتصادي أكبر للقطاع العام. يمكن وصف هذا الواقع بالعودة الى الوراء، أو ربما بالخطوات الى الأمام لأنه من المستحيل الغاء عدد من القرارات التي اتخذت سابقاً وتم تطبيقها لأكثر من ربع قرن. هنالك ضرورة لوضع معالجات متقدمة لعدد من النتائج المزعجة التي لا تتحمل مسؤوليتها الليبيرالية نفسها، بل من أساء اليها في التطبيق السريع الشامل وغير المدروس.
ما هي أبرز هذه النتائج السلبية التي حققتها الليبيرالية بالرغم من أن النتائج الايجابية لا تخفي على أحد، وهي تحقيق نمو عام قوي متواصل لسنوات طويلة؟
أولا: الأزمات المالية في الدول التي اعتمدت حلم الليبيرالية ومنها دول الاتحاد السوفياتي السابق وأوروبا الشرقية كما دول شرق أسيا وأميركا اللاتينية وغيرها. هنالك أزمات كبرى حصلت في الأرجنتين مثلاً ولم تنتهِ حتى اليوم. هنالك أزمة دول شرق آسيا في التسعينات التي لم تعالج كلياً، كما هنالك أزمة 2008 الكبرى التي ما زلنا نحصد نتائجها بالرغم من كل الحاولات التي قامت وتقوم بها الدول المعنية الأساسية، خصوصاً في أوروبا.
ثانياً: ظهور فجوات كبرى متزايدة في الدخل خلال ربع القرن الماضي الأخير التي جعلت فئة كبرى من الناس تشعر بأنها خارج اللعبة. توسع الفجوة لا يعني بالضرورة أنَّ الفقير أصبح أفقر، بل أن الغني استفاد من الأوضاع أكثر منه وبالتالي توسع الفارق. هنالك حقيقة نفسية تشير الى أن الانسان لا يقيس أوضاعه الحالية بماضيه فقط، بل يقيسها بغيره في المجتمع وبأقرب الناس اليه. لا شك في أن الطبقات الفقيرة تشعر اليوم بأنها في حال أسوأ، ليس بالضرورة مقارنة بالماضي، انما مقارنة بالميسورين في ظل مجتمعات تتوافر فيها سلع وخدمات أكثر بكثير من السابق.
هنالك كتاب جديد مهم لتوماس بيكيتي عنوانه: “رأس المال في القرن الواحد والعشرين” أخذ تحضيره وكتابته أكثر من عقد من الزمن. يشير الى واقع وخطورة ارتفاع فجوة الدخل بين المواطنين عالميا، نتيجة تطبيق الليبيرالية الاقتصادية لأكثر من 25 سنة. يقول أن الثروة نمت بنسب أعلى من الناتج المحلي الاجمالي، وبالتالي يقترح وضع ضريبة على رأس المال. ضمن هذا الواقع الموصوف والمدروس، من له ثروة كبرى حقق أيضاً عائداً أكبر وبالتالي توسعت فجوة الدخل بشكل كبير. يتخوف بيكيتي من تأثير هذه الحقيقة في الديموقراطية والعدالة الاجتماعية حتى في الدول الأكثر تطوراً. يقترح “بيكيتي” وضع ضريبة على رأس المال وهذا غير مسبوق، اذ ان الضرائب العادية تقع على ما ينتج عن رأس المال وليس على رأس المال نفسه. الضريبة تطاول اليوم الدخل الذي ينتج عن تشغيل رأس المال كما الفارق في قيمة رأس المال عندما ترتفع. ييقترح “بيكيتي” أن تكون هذه الضريبة على رأس المال نفسه عالمية بحيث لا تنتقل الاستثمارات من دول الى أخرى بسببها. تساهم ايرادات هذه الضريبة في تخفيف فجوة الدخل عبر مشاريع ومساعدات وحوافز تطاول من يحتاج اليها من الفقراء والشركات الصغيرة والمتوسطة كما المستثمرين الأفراد وغيرهم.
أما من ناحية نسبة هذه الضريبة السنوية، فتتصاعد مع قيمة رأس المال بحيث يمكن أن تصل الى 10% للثروات الكبيرة. يقول عدد من الاقتصاديين إن القليل من الفجوة في الدخل مفيدة اذ تشجع الانسان على العمل والتقدم في سبيل تحسين أوضاعه. أما الفجوات الكبيرة، فتعتبر عاملاً ودافعاً للاحباط، فتقضي على الأمل وبالتالي على فرص تحقيق التنمية في كل الدول.
ويقول “تايلر كوين” خلاصات “بيكيتي” ليست واقعية بالضرورة، اذ ان نسب نمو الثروات تختلف من ثروة وأخرى وبالتالي هنالك خطورة في التعميم. كما أن بيكيتي لا يعطي أهمية للأخطار التي يعتمدها من يخاطر بثروته في سبيل تحقيق عائد مرتفع يستفيد منه كما الاقتصاد بشكل عام. فالاستثمارات ان لم تعط عائداً كافياً لا تكون مفيدة، وبالتالي لا يتشجع المستثمرون على القيام بها. لا توجد استثمارات من دون أخطار، وبالتالي فان العائد المرتفع ليس خطيئة بل نتيجة منطقية للمخاطرة في توظيف الأموال والاستثمارات.
من ناحيته، يعتبر الاقتصادي “جوزيف ستيغليتز” Stiglitz أن فجوة الدخل بين الدول أكبر بكثير من الفجوة داخل الدول، وبالتالي يتعارض مع بيكيتي ليس في دقة النتائج، بل في عدم اعطاء الصورة الحقيقية الكاملة. هنالك مشكلة أكبر لا تتلخص في رأي “ستيغليتز” في الأوضاع الداخلية للدول، وانما في العلاقات بينها وبالتالي في الاقتصاد العالمي ككل. يقول “ستيغليتز” أن الفجوة في الدخل هي نتيجة لكنها خيارات أيضاً، اذ ماذا يمنع الدول من تصحيحها. يجب على كل دولة أن تضع الضرائب الداخلية التي تناسبها والتي تصحح الفارق في الدخل، وليس هنالك ضرورة لوضع ضريبة عالمية. تصحيح الفجوة قرار داخلي شجاع وليس قرار عالمي.
لا شك في أن “بيكيتي” نبه المجتمع الدولي الى خطورة الاستمرار دون معالجة فجوات تتوسع سنوياً وتؤدي قريباً الى مشاكل اجتماعية خطيرة. من ناحية أخرى، يقول ستيغليتز انه من الخطأ وضع ضريبة على أصول يمكن أن تختفي بسبب الضريبة، بل يمكن وضع نسب ضرائب مرتفعة على الأرباح الكبيرة. في رأيه من الأفضل وضع الضرائب على الممارسات السيئة والمضرة كالتلوث والمضاربات، وليس على الجيدة كالعمل والادخار والانتاج. فالضريبة على الثروة تقضي عليها مع الوقت، ولا تفيد المجتمعات.
أخيراً، يقول ستيغليتز إنه من الأفضل وضع حوافز للتقدم يستفيد منها الفقراء والأفراد كما المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تعتبر العمود الفقري للابداع والتجدد والابتكار.