Site icon IMLebanon

المصارف المركزية في العالم… «اللعبة الوحيدة في الدولة»

Joumhouriya-Leb

بروفسور غريتا صعب
قد تكون إحدى أبرز نتائج الأزمة المالية العالمية بروز دور المصارف المركزية في السياسة الاقتصادية للدول. وقد يكون تفسير هذه الديناميكية ما قدمه الصحافي الاميركي David Wessel في كتاب له إبّان اندلاع الأزمة المالية «نحن نثق بالإحتياطي الفيدرالي» وكيف اصبح مع الرئيس والكونغرس والمحكمة العليا السلطة الرابعة في الدولة.

هذه الأفكار جرى تداولها في أوروبا أيضاً حيث اصبح يُشار الى البنوك المركزية بوصفها «اللعبة الوحيدة في الدولة»، ولا سيما انّ تغييرات كبيرة حدثت في مسار عمل هذه المصارف ما اضطُر العديد من الاقتصاديين وصانعي القرار الى اعادة النظر في وظائف وأدوات هذه المصارف وإمكانيّة التوفيق بين استقلالية المصارف المركزية والتي برزت في العقود الماضية مع تزايد نفوذها بعد الأزمة المالية في العام ٢٠٠٨.

وإذا ما أردنا مراجعة دور المصارف المركزية منذ الثلاثينيات في القرن الماضي لرأينا كيف انّ دورهم كان على مقدار من الأهمية خصوصاً بعد الكساد الكبير في العام ١٩٣٠ والتضخم الذي حصل في العام ١٩٧٠، وقد يكون الدور المركزي الذي لعبه الاحتياطي الفيديرالي بعد الأزمة المالية عام ٢٠٠٨ جاء نتيجة تجارب عام ١٩٣٠ -ولا يمكن هنا إنكار دور برنانكي في منع انهيار النظام العالمي لأنه لولا دراسته أسباب الأزمة في العام ١٩٣٠ لكان جاء الرد على الأزمة الحالية أبطأ وأضعف- والدور الخاطئ الذي لعبته السياسة النقدية في تعميق الكساد العالمي عام ١٩٣٠ كون هذه السياسة كانت ضيقة وسمحت بانخفاض حادّ في مخزون المال (في الولايات المتحدة).

كذلك فإنّ برنانكي أشار اليها في دراسة له نشرت عام ١٩٩٣ بأنّ المصارف ساعدت في تعميق هذه الأزمة وانهيارها أدى الى عدم توافر الائتمان (بين العامين ١٩٣٠-١٩٣٣ انهارت نصف المصارف في الولايات المتحدة وموجة الإفلاس ساهمت الى حدّ بعيد في تفجير الأزمة الاقتصادية)

هذا وتابع برنانكي في دراسته انتقاد دور الاحتياطي الفيديرالي الاميركي في توجيه السياسة النقدية وحماية عملية السوق، وتبعته المصارف المركزية الاخرى في أوروبا وانكلترا مع العلم انّ المصارف المركزية في هذه الدول تجاوبت وبطرق مختلفه مع الازمة إذ إنّ الاستجابة للازمات تتفاوت حسب الهيكلية الاقتصادية والمالية للدول كذلك تختلف هنا الادوات والموارد في هذه المرحلة -لهذا و في المرحلة الاولى من الازمة المالية

والتي كانت مماثلة على جانبَي المحيط الاطلسي جاء الرد مماثلاً- اما المرحلة الثانية فجاءت فريدة في منطقة اليورو – فزيادة التفكك المالي داخل هذه المنطقة اجبر المركزي الاوروبي على التدخل في اسواق السندات السيادية لبعض البلدان مع انّ تدخله لم يكن افضل استجابة من حيث الفعلية والاتساق والشفافية- وهكذا نرى انّ لحكام المصارف المركزية اهدافاً مختلفة لا سيما ونحن ندخل مرحلة ما بعد التيسير الكمي والاحتياطي الفيدرالي يستعدّ لخفض الدعم الاقتصادي، نرى انه وعلى النقيض يستعدّ المركزي الاوروبي لزيادة الحوافز كذلك يفعل بنك اليابان، ونرى انّ بنك انكلترا اصبح في مرحلة الاستعداد لرفع اسعار الفوائد وهذا لا ينطبق فقط على المصارف الكبرى في الدول الصناعية.

كذلك فإنّ المصارف المركزية في المكسيك والسويد وكوريا الجنوبيه قد خفضت اسعار الفوائد بينما روسيا وجنوب افريقيا على سبيل المثال رفعت اسعار فوائدها -هذا واستراتيجيات متباينة للمصارف المركزية لا تخلو من المخاطر وهو ما حدث في أسواق الدول الناشئة العام الماضي بعد أن ألمح الاحتياطي الفيدرالي الى انه قد يباشر عملية تبطيء شراء السندات الشهرية ما يعني احتمال ارتفاع عوائد السندات الاميركية الذي دفع بالمستثمرين الى سحب اموالهم من الدول الناشئة خشية انخفاض قيمة رأس المال؛ وحسب العديد من الاقتصاديين قد يكون هذا التباين في السياسات المالية والاقتصادية طبيعياً إذ إنّ اقتصاديات هذه الدول على نسب متفاوتة في معادلات النموّ.

والسؤال الذي يطرح نفسه وسط هذا التباين في السياسات والادوات و اختلافها بشكل عام، ما هو مستقبل المصارف المركزية والتحديات الرئيسة وما هو إطار السياسة النقدية المرغوب بها بعد الازمة؟

– عنصر اساسي ظهر في هذه العملية هو استقرار الاسعار ويُعتبر أفضل إسهام يمكن أن تقدّمه السلطات النقدية للاقتصاد وبشكل عام.

– استقلالية المصارف المركزية وسياسات شفافة هي عنصر اساسي في تحقيق استقرار الاسعار من قبل السلطات النقدية، وهنا لا بدّ من الإشارة الى انّ استقلالية المصارف المركزية تباينت بعض الشيء ولا سيما بين الاحتياطي الفيديرالي الذي تصرف بكل استقلالية والمركزي الاوروبي الذي عاش ولفترات لا بأس بها رهن التجاذبات السياسية ضمن منطقة اليورو.

كذلك جوانب اخرى من نموذج السياسة النقدية التي كانت متبعة قبل الأزمة وجب إعادة النظر فيها بعناية مع عدم كفاية خطط متوسطة الأجل وتفاوت في طرق التصدي للصدمات ساهم في بناء اختلالات مالية في الدول المتقدمة -وقد تكون توجهات متوسطة الأجل في السياسات النقدية تساعد هذه الدول في التخفيف من حدة الأحداث وعواقبها. هذا علماً انّ الأزمة أظهرت انّ لدى البنوك المركزية أدوات قوية للرد على حالات غير عادية وذلك من دون التخلي عن هدفها النهائي.

وقد تكون مهمات البنوك المركزية في المرحلة الاخيرة على درجة كبيرة من الأهمية كونها اظهرت انها اللاعب الأهم في السياسة النقدية والمالية خصوصاً أنّ دورها في تعويم مصارف ومؤسسات مالية ولعبها دور «المقرض الأخير» لهذه المؤسسات ساعد في منع ظاهرة المخاطر النظامية «systematic risk» وهي خطورة ان تكون مشكلة واحدة في النظام تُنشر في المنظومة كلها مثل الدومينو وهذا يعني العدوى حيث تتأثر المصارف ببعضها في ضوء تعميق الاسواق المالية والعولمة؛ وقد تكون هذه العملية «المقرض الأخير» ساهمت وبشكل كبير في تفادي انهيار النظام المالي العالمي وانهيار النشاط الاقتصادي الحقيقي ونجحت الى حدٍّ ما في مواجهة عدد من التحدّيات وعلى رغم ذلك يبدو انّ هنالك مسائل غير محلولة.

وبينما كانت ردود المصارف المركزية مناسبة يبدو من الضروري تعزيز التنسيق وتقاسم المهام بين المصارف المركزية والحكومات كذلك التعاون بين هذه المصارف والسلطات المالية بهدف بناء شبكة أمان دولية. أيضاً يبدو التشديد على دور التنظيم والإشراف ضرورياً من اجل منع تراكم الاختلالات المالية.

وقد يكون دور المصارف المركزية هاماً وجيداً إلّا انّ وجود فكرة «المقرض الأخير» Lender of last resort وتزايد دور المصارف المركزية يمكن أن يشجع الإفراط في المخاطرة بين المشاركين في السوق- أضف الى ذلك زيف التفكير في النظام المالي العالمي إذ إنّ المصارف المركزية وفي سعيها للحفاظ على استقرار اقتصاداتها المحلية ان من خلال سياسات نقدية مستقلة او عبر التركيز على سعر الصرف فانّ ذلك لا يعني بالمطلق أنّ آثار هذه السياسات سوف تنعكس بالضرورة ضماناً في استقرار الاقتصاد العالمي.

لذلك نرى انّ دور المصارف المركزية الأحادي غير سليم وقد لا يعني بالضرورة ارتياحاً في الاسواق المالية العالمية، إنما المهم تعزيز التنسيق والتعاون بين البنوك المركزية والسلطات المالية.

لذلك لا يمكن المراهنة فقط على دور المصارف المركزية في حلّ أزمات مالية كالتي حدثت في العام ٢٠٠٨، والبرهان على ذلك أنه وعلى رغم تدخّل البنك المركزي الاوروبي منذ بداية الأزمة فإنّ ذلك بقي ناقصاً كون التنسيق بينه وبين الحكومات لم يكن على ما يبدو كافياً. في النهاية وبانتظار حدوث تغييرات جذرية في النظم المالية والمؤسساتية تبقى المصارف المركزية الملاذ الأخير لأيّ اختلال مالي محتمَل.