في وقت تهاوت فيه المجتمعات من حولنا تحت ضربات الوحشية الغرائزية، استطاع لبنان ان يحافظ على حد ادنى من التماسك، وكأنه تعلم من تجربته السابقة في الحروب العبثية. وهو اليوم يحاول بكل ما اوتي من مناعة هشة تجنب العودة الى جحيمها.
والقطاع الاستشفائي كسائر القطاعات الاقتصادية يتحمل ثقل هذا الواقع، وربما اكثر من الباقين بسبب اهميته الطاغية في حياة الناس.
في هذه الظروف الدقيقة، تزداد الحاجة الى تحسين الاداء عبر ترشيد استعمال الموارد المتاحة، وبالتالي تبرز ضغوط على المسؤولين للتعامل مع ثلاثة تحديات اساسية :
اولا : لجم ازدياد الكلفة.
ثانيا : الاستمرار في تحسين الخدمات.
ثالثا : الحصول على رضى المريض.
ان هذه المهمة صعبة جداَ، والصعوبة تكمن في التوفيق بين هذه المتطلبات الثلاثة. فنحن نشهد منذ ستينات القرن الماضي تطوراً هائلاً ومستمراً في التقنيات الطبية وتنامياً في المعلومات وطرق التشخيص والمعالجة. كلها دخلت الى طريقة عمل المستشفى التي اصبحت اشبه بموزاييك مؤلفة من اقسام عدّة يتنقل بينها المريض، ما يجعل ادارة ملفه من اختصاصيين متعددين اكثر تعقيدا واكثر كلفة ويصبح اكثر عرضة للاخطاء.
لقد حاول المسؤولون عندنا في القطاع الصحي، وهم كثر بسبب تعدد مراكز القرار، ان يعالجوا الامور، احياناً من طريق مراقبة اقل ما يقال عنها انها تشكو من التسرب، واحيانا اخرى من طريق قرارات متفرقة ينقصها الترابط ضمن خطة متكاملة. ولكن ذلك بدلاً من ان يضبط الامور، اتاح لبعض العاملين في القطاع الاستشفائي، سواء داخل المستشفيات او خارجها، بالالتفاف على هذه القرارات والاستفادة لمنفعتهم الشخصية بدلا من المنفعة العامة.
هذه المعالجات الخاطئة والمجتزئة أدّت الى هدر الامكانات المادية واساءت الى سمعة القطاع الصحي. والاخطر من ذلك انها اذ اوحت بان هذه الاجراءات المطلوبة لضبط الامور، قطعت الطريق امام وضع خطة متكاملة وضرورية للقيام باصلاحات جذرية صحيحة.
ان طبيعة تكوين القطاع الاستشفائي في لبنان تتطلب شراكة حقيقية، وفي كل الامور، بين الدولة والمستشفيات الخاصة. هذه المستشفيات تؤمن 85% من الخدمات المطلوبة كذلك فان 60% من مداخيلها هي من الصناديق الضامنة الرسمية كافة.
اخطار كثيرة تتربص بالقطاع الاستشفائي في لبنان، سوف اذكر اهم ثلاثة منها :
1. لقد تطورت العلاقة بين المستشفيات الخاصة والدولة بشكل اصبحت أكثر وأكثر تشبه علاقة “زبون” مع “مقدمي خدمات”، مع ما يستتبع ذلك من افساد متبادل في غياب اجهزة رقابة جدية. لقد أدّى هذا الى استفادة البعض من هيمنة الطائفية والزبائنية السائدتين في البلد على حساب المهنية والاخلاقية في العمل، في وقت صار الثواب والعقاب وجهتي نظر وليست قاعدة صلبة لا تتغير مع الاهواء والوساطات.
2. النقص المخيف في عدد الممرضين والممرضات، اذ ان الشباب والشابات يهجرون هذه المهنة بسبب صعوبتها وقلة مدخولها. ولم يعد يكفي الكلام عن ضرورة ان ترفع المستشفيات من اجورهم بل يجب العمل على وضع خطة لتحفيزهم انطلاقا من استحداث فروع للجامعات في مختلف المناطق لا سيما الريفية منها وصولا الى وضع دراسة للكلفة الواقعية للخدمات الاستشفائية تسمح للمستشفيات برفع مستوى الاجور وتحسين شروط العمل.
3. العدد المتزايد من الاطباء، اذ يدخل سنويا سوق العمل بين 300 و500 طبيب يتخرجون من الجامعات اللبنانية او من الخارج مع تفاوت كبير في المستوى، علماً ان العدد الموجود حالياً تجاوز 12 الف طبيب. ان هذه التخمة تتسبب بممارسات مخالفة لقانون الاداب الطبية مع عجز ملفت لكل من وزارة الصحة ونقابتي الاطباء والمستشفيات في قمع هذه المخالفات، ما ادى الى الحد من فعالية المحاولات لترشيد الانفاق، وضبط الفاتورة الدوائية وهدر وسمسرات في الاعمال التشخيصية من فحوصات مخبرية وشعاعية ومعاينات طبية.
لقد آن الاوان ان نحذو حذو الدول الغربية ونقوم بتأليف “هيئة صحية عليا” مؤلفة من مهنيين واكاديميين ونقابيين، وبرئاسة وزير الصحة تكون مهمتها الاولى بلورة رؤية واضحة، ووضع خطة استراتيجية لتحقيق هذه الرؤية بعيدا عن السياسة والطائفية والزبائنية، وتحقيقا لمبدأ العدالة والمساواة بين جميع اللبنانيين من جهة، ومبدأ المحاسبة من جهة ثانية.