طوال ثلاث سنوات، خاضت هيئة التنسيق النقابية صراعاً مريراً مع السلطة والهيئات الاقتصادية. هذا الصراع أعاد إحياء الحركات النقابية بعدما نجحت السلطة في ترويضها لمصلحتها. خرج العمال من الإطار النقابي الضيق الذي وضعهم فيه النظام والمتمثل بالاتحاد العمالي العام. منذ عام 2003، غُيّب المجلس الاقتصادي – الاجتماعي عن جميع القضايا التي نشأ من أجلها. تغييب مقصود من أجل إخراج النقاش من دوائر المؤسسات وتحويله إلى نقاش تفاوضي زبائني همّه الحفاظ على مصالح أصحاب رؤوس الأموال. وسط هذه الأحداث، تبرز مبادرةٌ جديدة يُنتظر أن تبصر النور قريباً بهدف وضع رؤية محددة لمعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية. لا تزال المبادرة مجرد فكرة لم يتبلور مفهومها النهائي بعد، وهي تقوم على مبدأ تأسيس منتدى حوار اجتماعي يكون بمثابة «مجلس اقتصادي اجتماعي ظل». وُلدت المبادرة بتعاون أربع هيئات هي: المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين، المركز اللبناني للتدريب النقابي، المكتب التمثيلي للمنطقة العربية في الاتحاد الدولي لنقابات الخدمات، والجمعية اللبنانية لتعزيزالشفافية – لا فساد. دعت هذه الهيئات إلى حوار اجتماعي ممأسس بين ممثلين عن مختلف الهيئات والقطاعات التي يتشكّل منها المجلس الاقتصادي والاجتماعي. ستكون مهمة المجلس الأساسية تشكيل أرضية للحوار بين مختلف الأطراف الاقتصادية من أجل إيجاد صيغ حلول تساعد على امتصاص التوتر الاجتماعي الذي تراكم بين الأطراف بسبب غياب مساحة للحوار. تختلف وجهات النظر حول الأرضية المناسبة للحوار بين إعادة إحياء المجلس الاقتصادي – الاجتماعي، أو خلق مساحة جديدة، إنما يبقى الأساس هو الحوار بين الفئات الاجتماعية. فإذا كانت الدولة، وفق مطلقي المبادرة، قد أحجمت عن إطلاق حوار اجتماعي وعن إعادة تشكيل أطر الحوار فلا شيء يمنع المجتمع المدني من أن يأخذ هذه المهمة.
يرى المدير التنفيذي لشبكة المنظمات العربية غير الحكومية زياد عبد الصمد أن «من المبكر الحديث عن المجلس لأننا ما زلنا في الخطوات الأولى، وعملية التأسيس ستأخذ بالاعتبار مختلف وجهات النظر».
يعتبر عبد الصمد أن «المبادرة ظهرت لأن الأمور في البلد وصلت إلى مكان متأزم أصبح لا بد فيه السعي عبر الجهود المشتركة إلى إنقاذ ما تبقّى من قضايا اجتماعية واقتصادية من خلال صياغة حلول تستجيب لمصالح الفئات الاجتماعية». الإشكالية التي يضعها عبد الصمد هي إمكانية التعاطي مع القضايا الاجتماعية والاقتصادية من دون التطرق إلى المستوى السياسي أو تغليبه على القضايا الأساس، إضافةً إلى الاختيار بين أن يكون هذا المجلس «ظلاً» أو مجلساً اقتصادياً – اجتماعياً مدنياً مستقلاً. ضمن هذا الإطار، يشيد رئيس اتحاد موظفي المصارف جورج الحاج بهذه المبادرة، ويعلن أن الهدف منها «إعادة تفعيل المجلس الاقتصادي – الاجتماعي والضغط من أجل تحقيق هذا الأمر، إلا أنه لا بد من إجراء بعض التعديلات على بنية المجلس من حيث توسيع نسبة المشاركة». يرى الحاج أن الدولة لا ترغب في تفعيل المجلس لاعتبارات عدّة، وخصوصاً أن الحوار الاجتماعي يمكن أن يخفّف من الاحتقان الناشئ بين أطراف الإنتاج.
إطلاق هذه المبادرة في الوضع والتوقيت الحاليين يطرح تساؤلات عدّة حول إمكانية النجاح الفعلي الذي يمكن أن يحققه الحوار، كما أنه يطرح إشكالية جديّة حول توافر عناصر الحوار السليم بين الأطراف في ظل السيطرة المطلقة للهيئات الاقتصادية والتي كرّسها أخيراً عدم إقرار سلسلة الرتب والرواتب. يعترف الحاج بأن «الحركة النقابية اليوم شبه غائبة، والهيئات الاقتصادية تعتبر أن هناك أزمة، وبالتالي لا يمكن المسّ بأموالها. المتحاورون ليسوا متساوين من حيث القوّة، إلا أنه بين الحوار وعدمه، يبقى الخيار الأول أفضل». لا يُطلق الحاج أحكاماً استباقية حول ما يمكن أن يصل إليه المجلس من نتائج، فالاحتمالات مفتوحة، لكنه يرى أن هذه اللقاءات قد تشكّل منبراً لتجييش القواعد العمالية والمجتمع المدني من أجل مواجهة الذين لا يريدون الإصلاح. يطرح الحاج مشكلة الكهرباء كمثلٍ يمكن أن يجمع مختلف الأطراف، حيث للجميع مصلحة في حلّ هذا الملف. كذلك يلفت إلى قضايا أخرى يجب التطرق إليها مثل ضبط أسعار المواد الاستهلاكية، ارتفاع أقساط المدارس…
قد تكون الهيئات الاقتصادية أبرز المتفائلين والداعمين للمجلس المنتظر، إذ إنها عبّرت إلى اليوم عن وجهة نظر إيجابية من أجل التحاور مع الفئات العمالية. يؤكد رئيس تجمع رجال الأعمال اللبنانيين فؤاد زمكحل أن «من الممكن أن يكون هناك تقارب كبير بين الهيئات الاقتصادية والهيئات النقابية من أجل إقرار ضمان الشيخوخة والمساعدات الاجتماعية وغيرها. لذلك أي حوار سيكون بنّاءً ومفيداً». ينفي زمكحل أن يكون هناك أي خلاف بين الهيئات الاقتصادية وهيئة التنسيق النقابية، معترفاً بأن «مطالبها حقّ، إلا أن الاقتصاديين يتعاطون بالأرقام ومطالب الهيئة أتت في وقت مشوب بركود اقتصادي، ونحن لسنا على استعداد لأن نموّل فشل الدولة وعدم قدرتها على تمويل أي مشروع كان». يعتقد زمكحل أن هذا المجلس هو رسالة للمسؤولين بأن فرقاء الإنتاج يمكنهم أن يجتمعوا لتحسين الوضع المعيشي، سواء كان هذا الاجتماع ضمن إطار رسمي أو غير رسمي.