“المعلم” سعيد خوري كما يحلو له ولمحبيه بمناداته “المعلم”، كان أحد أبرز مؤسسي شركة اتحاد المقاولين (C.C.C.) مطلع الخمسينات الى جانب حسيب الصباغ وكامل عبد الرحمن. وكان خوري والصباغ تهجّرا من فلسطين من النكبة وكان ردهما بتهجير الهجرة عبر تأسيس شركة مقاولات عملاقة ساهمت في اعمار العالم العربي وتوسعت حتى غطى نشاطها العالم وبنجاح قياسي وبسمعة غير مسبوقة وبمسؤولية اجتماعية نادرة.
منذ وصول سعيد خوري الى لبنان عام 1948 نتيجة لنكبة فلسطين، مرت على المنطقة عقود طويلة ولدت خلالها دول وحصلت انقلابات ونشأت انظمة وسقطت اخرى واندلعت حروب وتبدلت اوضاع، برز منظرون وقادة وزعماء جاء كل منهم بمشروع وتعاقبت المشاريع والعهود لنرى انفسنا اليوم في ما نحن فيه من تخبط وحيرة في شأن المستقبل.
مع ذلك، نشأ زمن آخر في موازاة هذا التعاقب للازمان الضائعة وهو زمن سعيد خوري، الذي جعلت منه نكبة الوطن الصغير رجلا عظيما لوطن اكبر ترامت اطرافه في العالم العربي وتعدته الى حدود بعيدة. كأن سعيد خوري، ومعه رفاقه، أرادوا ادامة اسم فلسطين وصورة فلسطين وشرعية فلسطين عبر تقديم البرهان على اهلية لا مثيل لها للعيش والنجاح وبناء الاوطان. وبفضل سعيد خوري وامثاله من رواد فلسطين عرفنا اكثر حجم الخسارة التاريخية ونشأت لدينا ولدى العرب حالة تعاطف بل وتماه تام مع قضية هؤلاء الرواد الكبار وقضية الشعب الفلسطيني في كل مكان.
ادخلنا في المنطقة كل انواع التجارب السياسية والاقتصادية فابتدعنا وبدلنا وغيرنا ثم انتفضنا وثرنا، لكن في تلك الاثناء كان سعيد خوري ورفاقه يعملون برؤية ثاقبة لم تتغير، وجهود جبارة يلهبها حلم قيامة فلسطين ونهوض العرب، فنجم عن ذلك الجهاد الاقتصادي الحقيقي صرح عملاق يكاد يمثل في حد ذاته دولة او امبراطورية مترامية الاطراف يعمل فيها بحسب تقارير شركة اتحاد المقاولين الاخيرة نحو 130,000 شخص في 42 بلداً. وحققت الشركة في العام 2013 دخلا مجمّعا يفوق 5,5 مليارات دولار. والشركة تتبوأ منذ سنوات طويلة المراتب الاولى في ترتيب شركات المقاولات العربية وفي لائحة الـ20 الاولى لأكبر شركات المقاولات العالمية من حيث الدخل.
بعض وسائل الاعلام تبتهج بتعريف سعيد خوري باعتباره “مليارديراً” ويضعونه في ترتيب احد ابرز رجال الاعمال العرب من حيث الثروة الشخصية، ونحن نعلم ان ذلك لم يكن يعني له شيئاً اذ بقي “المعلم” نموذجاً لرجل الاعمال المتواضع في سلوكه ودماثته وحياته العادية وكان مصدر اعتزازه الاول هو بناء شركة اتحاد المقاولين كمجموعة اعمال عملاقة، وما ساهم به عن هذا الطريق من خلق فرص العمل لعشرات الالوف من المهندسين والفنيين والعمال من فلسطين ومن لبنان والعالم العربي. كان انجازه الكبير المهم هو تحويل الـC.C.C. من شركة انشاءات الى مجموعة ضخمة ذات نشاطات اتسعت لتطال قطاع النفط وخدماته والصناعات الثقيلة والسدود والبنى التحتية. وحرص سعيد خوري على تنويع نشاط المجموعة بحيث يقيها من الاعتماد الكلي على قطاع الانشاءات الحساس للدورات الاقتصادية وكذلك للاوضاع السياسية، ونتيجة لتلك الاستراتيجية البعيدة النظر اصبح نحو 41 في المئة من دخل المجموعة يأتي من المشاريع الصناعية وقطاع النفط والغاز.
ومثل كل الكبار، كان سعيد خوري يزداد تواضعا وانفتاحا ومحبة مع كل نجاح يحققه على صعيد اعماله. كان يستمع جيدا لمحدثيه وخاصة اولئك الذين يحبهم او يقدر مسلكهم وعملهم. ولا يقتصر الامر على الاستماع بل كان سريع المبادرة حيال كل طلب يرفع اليه وما اكثر الطلبات الاجتماعية والخيرية التي كان يلبيها سعيد خوري لكل مريض او طالب علم او طالب سكن. في آخر عطاء له ابلغته بان عائلة فلسطينية في مخيم صبرا في حاجة ماسة الى مبلغ من المال لتأمين سقف مسكنها الذي يكاد يسقط عليها. ومن دون ان يعرف العائلة حوّل المبلغ المطلوب. مرة اخرى طلبت منه مساعدة طالبة علم متفوقة فأرفدها بالمبلغ المطلوب والذي لولاه لما تمكنت من ان تصبح طبيبة متميز في احسن الجامعات الاميركية.
هذه هي ثقافة شركة اتحاد المقاولين التي لخصها ابنه سامر بقوله: “والدي وخالي (حسيب الصباغ) انشأ ثقافة خاصة بشركة اتحاد المقاولين (C.C.C) وجسّداها بنا. وهي تقوم على التواضع والصدق والمحبة والرحمة ورعاية الفقراء والمرضى والمحتاجين. وأؤكد لكم اننا سنلتزم هذه المبادئ الآن وفي المستقبل”.
كان وقت “المعلم” سعيد مستغرقاً بشركة اتحاد المقاولين وبنشاطها العربي والدولي كما استغرق قسم منه في السنوات الاخيرة في موضوع نقل الراية الى الابناء، وهي مسألة دقيقة تطلبت منه كل ما يملك من حكمة وابوة وفي الوقت نفسه من حرص على عمل الشركة. لكن صاحب الرؤية المتقدمة للعمل العربي خصص دوما جهودا موازية للاهتمام بالشأن العام وخصوصا الوضع في لبنان، وقضية تطور فلسطين وبناء السلطة الوطنية ومؤسساتها وجهود التنمية في الاراضي الفلسطينية التابعة للسلطة. واحدى قضايا الشأن العام التي صرف “المعلم” سعيد اهتماما خاصا بها كانت مشروع مجموعة الاقتصاد والاعمال الذي ادرك اهميته منذ البداية عندما قرر ان يكون احد مؤسسي المجموعة في اواخر السبعينات. وقد آمن سعيد خوري بحدس رجل الاعمال المجرب ذي الرؤية العربية بأهمية قيام شركة تستهدف سد الثغرة الكبيرة في مجال الاعلام الاقتصادي العربي، وادرك في ما بعد اهمية الدور الذي بدأت تلعبه المجموعة في قيادة صناعة المؤتمرات في المنطقة والذي كان لفترة طويلة حكرا على الشركات ووسائل الاعلام الاجنبية. وعليه، قبل في العام 1989 ان يتولى رئاسة “مجموعة الاقتصاد والاعمال” وبقي رئيسا لها حتى وفاته.
وداعاً ابا توفيق، ستبقى جزءاً مهما من تاريخنا ومن تجربتنا ومن نجاحنا. وكما ساهمت عبر الـC.C.C في اعمار العالم العربي، ساهمت عبر “الاقتصاد والاعمال” في الانماء العربي وفي حفز الاستثمار فيه. وكما كان يحلو لك ان تردد وفي كل المناسبات ان المجموعة ليست ملك مساهميها بقدر ما هي ملك عربي عام، بالدور الذي تلعبه، وبتأمين المنصات المتنقلة وتأمين التواصل العربي – العربي، والعربي – الدولي.