حيدر الحسيني
بعد عشرات الأعوام من الاعتقاد أن المؤسسات الدولية المدعومة من الدول الكبرى في الغرب، وتحديداً صندوق النقد والبنك الدوليين، بإمكانها أن تفرض شروطها على الدول الأقل نفوذاً و/أو تقدماً، بدأت ملامح هذه الصورة تتبدل، مع أن بعض الآراء الناقدة تذهب إلى القول إن هاتين المؤسستين هما بمثابة أداة تستخدمها الولايات المتحدة وحلفاؤها لبسط الهيمنة الاقتصادية والسياسية على من تشاء من البلدان.
صندوق النقد صاحب «الوصفة» أو «الروشتة» التقليدية الصارمة التي كان يلزم الدول بتنفيذها مقابل دعمها وقت الأزمات، أصبح أكثر ليناً في السنوات الأخيرة، خاصةً بعد الأزمة المالية العالمية التي انفجرت عام 2008 انطلاقاً من الولايات المتحدة، ولا تزال تصيب بشظاياها العديد من الاقتصادات حول العالم، مضيفةً إلى أدوات الصندوق مقاربات جديدة لم يعهدها سابقاً.
هذه «الوصفة» كانت في السابق ترتكز أساساً على «سلة» من الأدوات/ الشروط، التي يأتي في طليعتها إصلاح المالية العامة (أبرزها فرض ضرائب جديدة وتفعيل الجباية وخفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي ومكافحة العجز)، «ترشيق« القطاع العام، خصخصة ما أمكن من القطاعات الخدمية العامة (كهرباء، مياه، هاتف، إلخ..)، خصخصة مؤسسات الضمان الاجتماعي، إلغاء دعم الدولة لبعض السلع الحيوية والخدمات والصناعات والزراعات (قمح، شمندر، محروقات، إلخ..)، تعويم سعر صرف العملة الوطنية، عدم زيادة الأجور والتقديمات، إن لم نقل مطالبته أحياناً بخفض الرواتب وشطب المكتسبات التي حققتها الحركات النقابية على مدى سنوات من النضال.
لكن الصندوق الذي فرض نفسه بصرامة على الكثير من الحكومات في أوقاتها الحرجة، خاصةً في الدول التي أعلنت إفلاسها (كما فعلت الأرجنتين) أو تلك التي كانت على وشك (مثل تركيا، اليونان، قبرص، الأرجنتين مجدداً..)، وجد نفسه تارةً في مواجهة اعتراضات شعبية ومدنية وحزبية وسياسية واسعة النطاق، وطوراً مضطراً إلى التعامل مع التكتلات الجيوسياسية الكبرى (كما حصل عندما عمل على ملفات الدول الأوروبية المتعثرة ضمن فريق الترويكا، التي ضمّت إلى جانبه ممثلين عن المفوضية الأوروبية والمصرف المركزي الأوروبي).
ولأن للاتحاد الأوروبي قواعده المالية وسياساته التجارية والصناعية، من ناحية، ولأن الضغوط الداخلية على الحكومات ترغمها أحياناً على عدم الاستجابة لشروط الصندوق، خاصة في القرارات «غير الشعبية»، من ناحية اُخرى، لم يجد الصندوق ملاذاً من تليين و»أنسنة» أدبياته كي تصبح اجتماعيةً أكثر منها تقنية ومالية بحتة.
«أنسنة» أدبيات الصندوق
بعد 2008 ليس كما قبلها. بغض النظر عن الأبعاد السياسية التي قد تكون كامنة وراء قراراته، لطالما كان تركيز صندوق النقد مُنصبَّاً على تصحيح أوضاع المالية العامة مهما كان الثمن الاجتماعي المترتب عن ذلك، بدليل أن البعثات (Mandates) التي يرسلها الصندوق إلى عواصم الدول لتقويم أوضاعه الاقتصادية والمالية وإعداد تقرير «المادة الرابعة» (Article IV)، لم تكن قبل أزمة عام 2008، تعير أي اهتمام يُذكَر بمجريات سوق العمل.
بيد أن هذه المسألة بدأت تندرج في صلب اهتمامات الصندوق منذ اندلاع الأزمة المذكورة. مصادر في الصندوق – في تصريح خاص لـ»المستقبل» – لم ترَ في ذلك «تغييراً في سياسته، بل «اهتماماً إضافياً» كان لا بد من الالتفات إليه بسبب التداعيات الاجتماعية الكبرى التي أفرزتها هذه الأزمة، خاصةً بالنسبة للشباب والبطالة، وكل ذلك تحت مقاربة من «النمو المُمكن« (Inclusive Growth).
لكن حتى لو كان ذلك «اهتماماً إضافياً»، فمن نافل القول إنه يشكل تغييراً كبيراً بالنسبة لمئات ملايين الفقراء والمتضررين من تبعات التباطؤ الاقتصادي العالمي، من جهة، ومن «الإصلاحات» التقشفية التي يفرضها الصندوق نفسه، من جهة اُخرى.
التركيز على استحداث فرص العمل والحد من البطالة، بات نقطة جوهرية في تقارير الصندوق. من هنا، برز تشديده في تقريره عن «مستجدات آفاق الاقتصاد الإقليمي» قبل بضعة أشهر على «تعزيز النمو الممكن والقدرة التنافسية وتوفير فرص العمل«، ناصحاً بـ»معالجة العقبات الهيكلية أمام النشاط الاقتصادي الخاص« كي «يزداد زخم التعافي ويتحول إلى نمو أعلى على أساس قابل للاستمرار«.
في السياق عينه، يشير التقرير إيّاه إلى أن «الدعم الكبير لأسعار الطاقة، كما في حالة مصر، يؤدي إلى تشويه الإنتاج لصالح الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة، والتي لا تشجع توفير فرص العمل«.
وبرأيه أيضاً، أنه «يمكن زيادة الإنتاجية واعطاء دفعة لاستثمارات القطاع الخاص وتنافسية الصادرات من خلال إصلاحات تعالج كل هذه المعوقات. والأهم من ذلك كله أن هذه الإصلاحات يمكن أن تنشئ المزيد من فرص العمل«، حيث أن «الإصلاحات التي تبدأ من قاعدة منخفضة يمكن أن تحقق منافع مبكرة، كما يتضح من النجاحات المحققة مؤخراً في المغرب وباكستان«.
بما يتسق مع هذا التوجه في لبنان، يرى الصندوق في تقرير توقعاته الاقتصادية الصادر هذا الشهر، أن تنفيذ الإصلاحات الهيكلية من شأنه أن يزيد النمو على المدى المتوسط، ويستحدث الوظائف، ويحسّن مستويات المعيشة والعدالة. كما يشير إلى أن السياسات المالية والاقتصادية الكلية، ينبغي أن تدعم النمو وأجندة سياسة هدفها تعزيز استحداث فرص العمل.
لبنان «المشاكس» مُحِقّ!
لبنان «المتعاون» مع صندوق النقد إلى حد كبير، يمكن القول إنه انفرد في تجربته ليس مع الصندوق وحسب، بل مع الأزمة العالمية بأسرها.
هذا البلد الذي يعاني ديوناً متراكمة ضخمة (65,6 مليار دولار حتى نهاية تموز 2014)، ومرّ بفترات من العجز المالي الجامح، استبق الأزمة العالمية بتدابير وسياسات حمَت بدرجة عالية اقتصاده ومجتمعه على السواء من كافة أنواع التقلبات المحلية والخارجية، حتى لو لم يكن صندوق النقد راضياً عن جوانب أساسية منها.
على سبيل المثال لا الحصر، اعتمد لبنان سياسة «التثبيت النقدي« (أو ربط سعر عملته الوطنية الليرة – بالدولار الأميركي على أساس هامش صرف أدناه 1501 ليرة وأقصاه 1514 ليرة للدولار الواحد)، أواخر التسعينيات، بعد مضاربات مصرفية على العملة كادت أن تُحدث اضطراباً لا تُحمَد عقباه. ولا يزال مصرف لبنان (المركزي) مُصرّاً على صوابيتها حتى الآن، نظراً لما للحفاظ على قيمة الليرة من أثر مهم بالنسبة للاستقرار المعيشي والاجتماعي في بيئة سياسية وأمنية يكتنفها الغموض.
هذا التدبير كان في البداية محل رفض من صندوق النقد، الذي عبّر مراراً وتكراراً عن موقفه الناقد على لسان مسؤوليه وفي تقارير «المادة الرابعة« التي كان يصدرها في التسعينيات وبداية الألفية، لكن موقفه هذا ما لبث أن اهتزّ لاحقاً.
سنة 2001، مثلاً، اعتبر الصندوق أن القدرة التنافسية للاقتصاد تتأثر سلباً بسعر الليرة اللبنانية المقوّمة بأعلى من قيمتها الحقيقية من خلال ربطها بالدولار القوي، مع ما يعنيه ذلك من أثر لا يحبّذه المصدّرون.
بعد ذلك، تحديداً في عام 2004، اعتبر الصندوق أن تراجع الدولار زخّم تنافسية لبنان، وتوقع استمرار هذا الاتجاه. ومع ذلك بقي الصندوق على «مكابرته»، فأورد في التقرير عينه أن «المديرين وافقوا مع السلطات (اللبنانية) على أن ربط سعر الصرف كان مفيداً في تعزيز الثقة، ويبقى مناسباً في الظروف الراهنة. (فيما) اقترح عدد من المديرين أن تدرس السلطات لاحقاً زيادة مرونة سعر الصرف، كجزء من حزمة شاملة متسلسلة جيداً لسياسات اقتصادية كلية وهيكلية، تزيد مرونة الاقتصاد وقدرته على التكيف مع الصدمات«.
الآن، وبعد 10 سنوات بالتمام والكمال، يبقى موقف لبنان أكثر قوة في تبيان جدوى السياسة التي انتهجها، بتأكيد من الصندوق الذي خلُص في أحدث تقاريره (أيلول 2014) إلى أن «ربط سعر الصرف يبقى مناسباً في ظل الظروف الراهنة، لكن يمكن الخروج إلى ترتيب ما أكثر مرونة، في الوقت المناسب، بما يساعد على تعزيز الاقتصاد والقطاع المالي والمرونة والقدرة على التكيف مع الصدمات«.
هذا ما رسّخ قناعة عبّر عنها حاكم مصرف لبنان، رياض سلامه، هذا الشهر في مباحثاته ضمن لقاءاته في واشنطن على هامش اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين، بتأكيده «الاستمرار في المحافظة على سعر الصرف، الأمر الذي لاقى ترحيباً وتأييدا من الجهات المختصة في صندوق النقد، لأن تلك السياسات هي السبيل للمحافظة على الثقة والاستقرار الاقتصادي«.
في الخلاصة، يمكن لمواقف صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات الدولية أن تتبدل، تارة عن قناعة واُخرى عن اضطرار، وفي الحالتين يبقى الأمر منوطاً بمدى حكمة ورشاد السياسات المتبعة في الدول المعنية، وبمدى حيوية الحركات النقابية والطبقات الكادحة، التي عادةً ما تكون الأكثر تضرراً من سياسات فرض الضرائب واتباع «أجندات» التقشف و»الترشيق»، مع ما تنتجه هذه الأخيرة من تسريح لآلاف العمال، وضمّهم بالتالي مع عائلاتهم – إلى دائرة البطالة والفقر، التي تصبح بدورها مشكلة تفرض نفسها بنداً أساسياً على جدول أعمال السلطات المحلية والمؤسسات الدولية على السواء.