Site icon IMLebanon

نخبة مصر المالية… ما لها وماعليها

EgyptMoney
عمرو عادلي

أثبتت النخبة المالية فى الخزانة والبنك المركزى وقيادة البنوك الحكومية الكبرى كفاءة واقتدارا ملحوظين فى إدارة ملف تمويل قناة السويس الجديدة، بابتداع أدوات تمويلية فى وقت قصير للغاية للاستثمار فى المشروع الضخم، وتحميل الخزانة العامة أقل عبء ممكن. وقد جاء إعلان البنك المركزى مؤخرا لنصيب الأموال من غير الودائع فى حصيلة شهادات القناة، التى بلغت ٢٧ مليار جنيه من إجمالى ٦٤ مليارا، دليلا إضافيا على نجاح الرهان المحسوب للنخبة المالية، والتى نجحت فى جذب مدخرات ضخمة نسبيا من خارج القطاع المصرفى. كما كان قرار المركزى عدم السماح للبنوك بشراء شهادات القناة فى محله لتجنب ما قد يولده هذا القرار من آثار على سعر الفائدة على السندات والأذون الحكومية، وبالتالى تكلفة تمويل الدين العام.

وباختصار يمكن القول أن فى مصر نخبة مالية على أعلى مستوى موزعة بين وزارة المالية القائمة المضطلعة بإدارة السياسة المالية للدولة، والبنك المركزى الموكل بصنع وتنفيذ السياسة النقدية. ويضاف إلى هذين نخبة مصرفية فى البنوك العامة المملوكة للدولة، التى لا تزال تحتفظ بنحو نصف إجمالى ودائع الجهاز المصرفى ما يفوق ٦٠٪ من إجمالى الإقراض.
لا يمكن فصل كيفية تكون هذه النخبة المالية، خاصة فى البنك المركزى والجهاز المصرفى، عن برنامج إصلاح القطاع المالى الذى بدأ فى ٢٠٠٣/٢٠٠٤، واستمر على مرحلتين متتاليتين تم خلالهما إعادة هيكلة القطاع المصرفى بوجه خاص، والإتيان بكفاءات من القطاع الخاص ومن البنوك العالمية لتشغل مناصب مهمة فى المركزى المصرى وفى البنوك العامة، وبالتوازى مع هذه العملية فإن نخبة وزارة المالية قد تكونت خلال العقدين الماضيين من جراء التواصل المستمر مع المؤسسات المالية العالمية من خلال برامج تدريب ودراسة فى الخارج وخبرات عمل فى مؤسسات كالبنك الدولى وصندوق النقد الدولى وبنوك وصناديق تنموية أخرى. وكانت النتيجة أنه قبيل اندلاع ثورة يناير كان لدى الحكومة المصرية مجموعة من الفرق عالية التدريب والكفاءة ومتقاربة الفكر فيما يتعلق بمنطلقات وتنفيذ السياسات المالية والنقدية. وقد انعكست عملية بناء الكفاءات والقدرات هذه على الإدارة الجيدة إلى حد كبير لهذين الملفين المهمين فى الفترة التالية على الثورة، والتى شهدت تأزما فى الوضع الاقتصادى وتفاقم أزمة الدولة المالية، وتآكل الاحتياطيات الدولارية وزيادة الضغوط التضخمية مع تباطؤ الاقتصاد وتراجع معدلات الاستثمار والتشغيل.

ويبدو للمتابعين لمشهد السياسات العامة فى مصر أن هذه النخبة المالية المصرفية هى الوحيدة داخل الجهاز الحكومى التى تملك رؤية متوسطة المدى لما يجب أن يكون الاقتصاد المصرى عليه فى السنوات المقبلة، كما أنها تملك خطة بأدوات معرفة لتنفيذ مثل هذه الرؤية، وعلى الرغم من الكفاءة المحسوبة والمبرهن عليها لهذه النخبة فإن هناك تحفظات مشروعة على طبيعة وحجم الدور الذى تلعبه فى صياغة أولويات السياسة الاقتصادية فى المرحلة الحالية، فمن الواضح أن هذه النخبة ذات التوجه النيوكلاسيكى الاقتصادى المحافظ تعلى من تخفيض العجز الرقمى كأولوية للسياسة المالية، وفى هذا السياق يمكن فهم خطط زيادة الضرائب وتخفيض الدعم والبحث عن بدائل من خارج الموازنة لتمويل التوسع الاستثمارى الحاصل، ومن الواضح من الإجراءات التى تم اتخاذها فى الشهور السابقة أن أولوية تخفيض العجز قد أتت على حساب جوانب أخرى كتحفيز الاقتصاد وتحقيق العدالة الاجتماعية، والتى أصبحت تحتل مراكز ثانوية بما يتوافق مع إجراءات التقشف.

ومع أهمية إعادة هيكلة مالية الدولة المصرية فى فترة أزمة كهذه إلا أنه قد يكون من غير المناسب إسناد صياغة رؤية الدولة الاقتصادية وصناعة سياساتها المالية لنخبة تكنوقراطية مهما كان مستوى كفاءتها، والذى هو محل اتفاق واسع بين جمهور المتابعين للملف الاقتصادى فى مصر، وذلك أن رؤية الدولة الاقتصادية ليست مسألة فنية بحال من الأحوال بل هى مسألة سياسية بشكل كامل، وليس من الممكن الحديث عن رؤية اقتصادية فى المرحلة الراهنة دون تعريف الأزمة التى تمر بها مصر على أنها أزمة اجتماعية مركبة ومتعددة الأبعاد تتضاءل أمامها أهمية أزمة الدولة المالية بحيث لا تحتل موقع البوصلة فى توجيه السياسات العامة كما هو حاصل اليوم، بل ينبغى فى المقابل أن تجيب الرؤية الاقتصادية التى تصوغها النخبة السياسية لا المالية على الأسئلة الكبرى من عينة مستقبل دور الدولة فى تنظيم الاقتصاد وفى الاستثمار ومستقبل علاقة الدولة برأس المال الكبير والمتوسط والصغير، ومستقبل توجه الاقتصاد المصرى هل سيكون مستهدفا للتنمية عبر التوسع فى التصدير كما كان الهدف فى العقد الماضى، أم أنه سيستهدف الطلب المحلى، والآثار التوزيعية لهذه الإجراءات، وبالطبع مستقبل علاقات القوى العاملة بالدولة وبأصحاب العمل ومستقبل الحريات النقابية وحقوق العمل.

إن المشهد يوحى بغياب رؤية اقتصادية تقدمها النخبة السياسية التى من المفترض أن يقع على كاهلها تحديد الأولويات، وتمخض عن هذا فى المقابل توسع دور النخب التكنوقراطية، والتى بطبيعة الحال تضع الأولويات طبقا لموقعها الوظيفى داخل أجهزة فنية لا تحتك بالشأن العام على نحو منهجى، ولا تحمل هموم التأسيس لنموذج اقتصادى أكثر استقرارا وأكثر قبولا وشرعية، وهى العملية المكملة بشكل طبيعى لجهود إعادة التأسيس لسلطة الدولة فى مصر بعد سنوات من الاضطراب المستمر.

لقد أثبتت نخبة مصر المالية قيمتها على مستوى الإدارة وصنع وتنفيذ السياسات، ولا شك أنها ستظل أصلا من الأصول القليلة التى يملكها الجهاز الحكومى المصرى فى الفترة القادمة. إلا أنه ينبغى عدم تحميل هؤلاء أكثر مما يحتملون، وأن يعاد توزيع الأدوار بحيث تصبح الرؤية الاقتصادية الهم الأول للنخبة السياسية.