بروفسور غريتا صعب
الخلاف الناشئ بين بروكسل وفرنسا سببه الرئيس انّ فرنسا ترفض عملية خفض الإنفاق الذي طالب به الاتحاد الاوروبي، كذلك فإنّ الاصلاحات الاقتصادية وجملة أمور بدأت تُظهِر تفاوتاً بين نظم الاتحاد ككلّ وفرنسا بالتحديد.
فإذا ما سمحت المفوضية لفرنسا بميزانية يفوق فيها العجز ما هومعتمَد في بروكسل تصبح مصداقية الاتحاد الاوروبي على المحكّ كونها تسمح بذلك لفرنسا بتجاهل قواعد الميزانيات بينما نفرضها وبقوّة على البلدان الصغيرة مثل اليونان والبرتغال.
وأسباب تفاوت الرأي بين بروكسل وفرنسا كثيرة ولا سيما انّ سياسة التقشف التي فرضها محور بروكسل-برلين على اوروبا بأجمعها أصبح يواجه ضغوطاً داخلية ما دفع مانويل فالس رئيس وزراء فرنسا الى التأكيد بأنّ هذه السياسة سوف تنتهي، ساعياً الى أخذ دعم انكلترا وكاميرون في هذا المجال بحيث يسمح لهما مرة أخرى بخرق مستوى العجز المحدّد وبينما تدفعان بالاصلاحات الاقتصادية الى الامام. ولكن قد تكون المشكلة وحسب صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية انّ «فرنسا لا يمكنها إقناع احد بهذا الموضوع ولا يمكنها التهرّب من مسؤولياتها».
هذا وتؤكد الصحيفة نفسها أنه لا بدّ من رفض ميزانية فرنسا للعام 2015 ما يعني أنّ حرباً بين باريس وبرلين/بروكسل تبدو حتمية وقد تودي الى نتائج كارثية على الاقتصاد الاوروبي والاسواق.
ولنفهم ما يحدث فعلاً لا بدّ من النظر الى دوافع ميركل، هولاند ورئيس المفوضية الأوروبية الجديد جان كلود جونكر والذي قد يكون واحداً في نهاية المطاف ألا وهو الحفاظ على اليورو وعدم الدخول في متاهات سياسة لن يكون فيها رابح واحد، علماً انّ هذا الواقع والأولوية اذا صح التعبير يواجهان قيوداً عدة خصوصاً من ناحية «جونكر» الذي سوف يستلم مهامه في تشرين الثاني إذ عليه أن يُثبت انّ في استطاعته تطبيق هذه القواعد كذلك من ناحية ميركل التي تحاول اثبات انّ قواعد بروكسل متشدّدة أكثر من السابق.
هذا، وعلى «جونكر» وميركل الأخذ في الاعتبار انّ فرنسا ثاني اكبر اقتصاد في الكتلة، لذلك ومن اجل حلّ مشكلة الميزانبة الفرنسية تتجّه باريس وبروكسل وبرلين الى التدخل من خلال عوامل ثلاثة: سياسية، اقتصادية وبيروقراطية.
– السياسية وعلى ما يبدو برزت من خلال المخاوف التي تظهر في تعيين وزير المالية الفرنسي السابق Pierre Moscovici في أول تشرين الثاني مشرِفاً على الشؤون الاقتصادية والنقدية ما يعني إمكانية إظهار نوع من المحسوبية للميزانية الفرنسية ما دعى «جونكر» الى إصدار قانون يوجب فيه توقيع المفوّض ومعه مفوّض آخر.
وللعلم عيّن Dombrovoskis لهذه المهمة وهو المعروف عنه بأنه صارم جداً في الأمور المالية والنقدية. أما عامل التوقيت فهو عامل مهم بحيث انّ الحكم على الميزانية سوف يتمّ قبل أن يستلم موسكوفيتشي مهامه.
– الاقتصادية ورفض أو قبول الميزانية مبنيٌّ على عاملَين مهمَين: الأرقام والجهود المالية والاصلاحات الهيكلية ما يعني انّ اللجنة قد ترجئ نسبة الـ 2% الى العام 2017 كما تقترح فرنسا.
– البيروقراطية وتفرض على الدول تقديم الميزانيات الوطنية في حلول 15 تشرين الأول، فتقدّم اللجنة تقييماً أولياً وتعطى الحكومات 3 أسابيع للردّ مع ميزانية منقّحة ما يعني جولة جديدة من المناقشات التي تفتح المجال امام الحكومة الفرنسية للتحرّك الى حين موعد اصدار المفوضية مجموعة جديدة من التوقعات، وتوقعات نتائج العجز. كل هذا يعني مزيداً من الوقت للاقتصاد الفرنسي أما نحو التحسن وأما نحو تدهور وعدم التزام.
وهذا يفسر بعض الشيء خفْض توقعات النموّ وتزايد المخاوف في شأن قوة الانتعاش في البلاد حتى انه أطلق على فرنسا أخيراً اسم «الرجل المريض في منطقة اليورو ولا سيما بعد «البيانات الاقتصادية السلبية وعدم قدرة الناتج على التحسّن من الربع الثاني من هذه السنة وتحسّنه بنسبة 0،2% في الربع الثالث» حسب ما ذكر بنك فرنسا.
هكذا نرى الاتحاد الاوروبي يواجه مشكلة فرنسا بسبب العجز المتوقع في الميزانية، وإيطاليا بسبب البطء في تخفيض العجز الهيكلي. وهاتان الدولتان تأملان في إقناع الاتحاد بأنّ هناك عوامل نموّ اقل من المتوقع، والحاجة الى تعزيز الاستثمار كافية لتفسير هذا العجز المتراكم.
لذلك قد تكون خارطة الطريق الى المفاوضات معقّدة نسبياً ولا سيما خلال الأسابيع المقبلة حيث إنّ بروكسل ستكون في غمرة تسليم السلطة من مفوضيّة باروسو الى الرئيس الجديد «جونكر» ويعتبر مسؤولو الاتحاد انّ تصريحات باروسو حول ميزانية ٢٠١٥ لتمهيد الطريق امام فرض عقوبات قد يكون مشكوكاً في شرعيتها السياسية، علماً انّ القوى المؤيّدة لهذا الطرح وبقيادة ألمانيا وهولندا ودول البلطيق تقول إنّ التغاضي عن وضعية فرنسا تقوِّض مصداقية الكتلة.
هذا هو الوضع الاوروبي حالياً والاسوأ من ذلك انتقاد وزراء مالية منطقة اليورو فرنسا لعدم التزامها بتعهداتها لخفض عجز ميزانيتها وقولهم إنّ «قواعد اللعبة يجب أن تكون هي نفسها وعلى الجميع».
وما زاد في التأزم توقعات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية حول فرنسا بأنها ستشهد نموّاً وقدره ٠،٤٪ مقارنة مع المملكة المتحدة ٣،١٪ وأميركا ٢،١٪ ما يعني انّ «فرنسا أصبحت» وكما قالت مجلة الايكونوميست في غلافها عام ٢٠١٢ «قنبلة موقوتة داخل أوروبا».
وهكذا نرى اليوم فرنسا تتحدّى الاتحاد الاوروبي منذ سنوات خلت. وحالياً على ما يبدو بدأت تتخلّى عن التزاماتها وسط استياء عارم داخل أوروبا من عدم قدرتها على الالتزام ناهيك عن الاستياء الداخلي من الخضوع لاتحاد بروكسل برلين.
وهذا ما دفع فرنسوا هولاند الى محاولة مقاومة الضغوط الشعبية ورفض التقشف الذي يمليه الاتحاد الاوروبي حالياً علماً انّ ألمانيا اتهمت وبشكل غير مباشر فرنسا بوضعها اليورو والاقتصاد الاقليمي في نطاق الخطر بالقول إنه «حان الوقت لتتذوّق فرنسا بعضاً من التقشف المؤلم الذي ألمّ بجيرانها في الجنوب في عقاب أزمة الديون ٢٠٠٩-٢٠١٢.
وهذا الواقع صحيح وإلاشتراكيون على حيرة من أمرهم رغم جهودهم في توفير حوالى ٥٠ مليار يورو من حجم الإنفاق العام بين الآن وعام ٢٠١٧، علماً انهم يعترفون بأنّ حجم الإنفاق العام سوف يرتفع بنسبة ٠،٢٪ خلال هذه الفترة.
هذه التوقّعات والمخاوف من التباطؤ الاقتصادي في اوروبا قد أثرت في ثقة المستثمرين عبر العالم ما أسفر عن تقلّبات في سوق الاوراق المالية في الولايات المتحدة وأسيا خلال الأيام الأخيرة.
لذلك نرى انّ أوروبا متجّهة نحو فترة من الركود والتباطؤ في النموّ تزيد المخاوفَ من انكماش اقتصادي على الطريقة اليابانية ولا سيما مع الوضع الحالي في فرنسا وايطاليا وتدهور التوقعات الاقتصادية والمشاعر المناهضة للاتحاد الاوروبي خصوصاً لدى اليمين المتطرّف كذلك داخل الحزب الاشتراكي بالذات، وهذا الشعور متزامن مع عدم رضى برلين وبروكسل عن توجّهات هولاند الاخيرة.
وفي جميع الأحوال ومهما كانت النتائج، يبقى القول إنّ اوروبا متجّهة نحو أزمة إن جاءت الحلول مع فرنسا او العكس، وهي في جميع الاحوال مستعدّة للمواجهة مع محور برلين/بروكسل حتى النهاية.