بروفسور جاسم عجاقة
في 21 آب 2014 صدر عن مصرف لبنان التعميم الوسيط الرقم 369 والذي يُنظم عمليات التسليف والتوظيف والمشاركة في المصارف اللبنانية. لكنّ قراءة هذا التعميم تُظهر أنه يحمل في طياته أكثر من مجرّد تعميم لتنظيم القطاع المصرفي.
تميّز القطاع المصرفي اللبناني بمتانته الناتجة عن السيولة العالية الموجودة في المصارف بالاضافة الى مجموعة القوانين التي فرضها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على القطاع المصرفي. وقد فهم الحاكم أهمية السيولة كرادعٍ أساس للأزمات التي تطال القطاع المصرفي وكضمانة لسياسة الثبات النقدي التي يتبعها المصرف المركزي، وهذا ما دفعه إلى وضع القوانين التنظيمية التي تضمن إقتطاع 25% من أرباح المصارف ووضعها كسيولة. وقد برزت ظاهرة في المصارف اللبنانية ألا وهي زيادة الودائع من القطاع الخاص المقيم وغير المقيم. وهذه الظاهرة التي بدأت في أوائل تسعينات القرن الماضي، أخذت بالتسارع مع تبوّء رياض سلامة لسدّة الحاكمية. وتعود الأسباب إلى الثقة التي أظهرها شخص رياض سلامة كقيمة مضافة للقطاع المصرفي.
إطار جميل ولكن…
لكنّ هذا الاطار الجميل تشوبه عيوبٌ كبيرة تطال السياسة المصرفية حيال الاقتصاد. فمهام المصارف التجارية تجاه الإقتصاد تشمل تعبئة الادخار لتكوين رأس المال، تمويل الصناعة، تمويل التجارة، تمويل الزراعة، تمويل النشاط الإستهلاكي، تمويل الأنشطة التي تخلق العمالة والمساعدة في السياسة النقدية. لكنّ المصارف التجارية، تركّز في أعمالها على تمويل النشاط الإستهلاكي في ظلّ تدهور النموّ الاقتصادي عموماً.
المعروف عن القطاع المصرفي اللبناني تعرّضه الكبير لدين الدولة اللبنانية العام حيث ما يزيد عن 80% من دين الدولة يعود إلى القطاع المصرفي (بما فيه مصرف لبنان). وهذا التعرّض أدّى في الآونة الأخيرة إلى تخفيض وكالة التصنيف الإئتماني «ستاندرد أند بورز» للتصنيف الإئتماني للمصارف اللبنانية إلى ما دون تصنيف الدولة وهذا على رغم السيولة العالية التي يتمتع بها هذا القطاع الذي تبلغ مجمل ودائعه 170 مليار دولار أميركي أيْ حوالى أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي اللبناني.
دور القروض
يكمن الدور الأساس للمصارف في إعطائها لقروض ضمن المهام السبعة السابقة الذكر. ويبقى التحدي الأكبر لهذه المصارف في إمكانية تحويل الودائع القصيرة الأمد إلى قروض طويلة الأمد. وهذا الأمر يجعل النظام المالي ضعيفاً وعرضةً للأزمات مثل نقص السيولة وتدهور نوعية القروض…
وبما أنّ إعطاء القروض محفوفٌ بالمخاطر للمصارف، عمدت سلطات الرقابة – مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف – إلى وضع تعاميم لتنظيم هذا النشاط عبر وضع قيود لا يُمكن من خلالها للمصارف المغامرة وضعَ بقية المصارف وبالتالي الاقتصاد الوطني في خطر عبر التشابك الحاصل بين المصرف وبقية اللاعبين الإقتصاديين.
لذا نرى أنّ تداعيات فشل مصرف في إحترام إلتزاماته المالية قد يكون كارثياً على النظام المالي والإقتصادي بحسب الآلية السابقة الذكر أعلاه. هذه التداعيات قد تتمدّد بحسب أهمية المصرف الكلية في الدائرة الاقتصادية والمالية (systemic importance of the bank) والتي يُمكن جملها بحجم المصرف ونوع التعرّض والتشابك مع بقية المصارف.
وتفادياً لسيناريوهات سيّئة، عَمَدَ مصرف لبنان في تعاميمه إلى فرض بطارية من الإختبارات تحت الضغط (Stress Tests) التي من المفروض بحسب شموليتها وعمقها، أن تُظهر إلى العلن نقاط ضعف المصرف والتي وبناءً على نتائجها يتمّ أخذ التدابير الضرورية للوقاية من هذه المخاطر.
والظاهر أنه ومع التحسن الذي أبرزته أرقام الإستهلاك الداخلي في لبنان والذي زاد بنسبة 4% على الأشهر الثمانية الأولى من هذا العام، ومع التراجع في الإستثمارات المُسجّل على صعيدَي الإستثمارات الأجنبية المباشرة (-23% في العالم 2013) وقروض كفالات (-2% في الأشهر التسعة الأولى 2014)، ظهرت إلى الواجهة مشكلة تعرض المصارف اللبنانية إلى دين القطاع الخاص الذي إزدادت مخاطره مع الوضع الاقتصادي المذري.
فالإرتفاع في الإستهلاك، ما هو إلّا نتيجةً لتحاويل المغتربين اللبنانيين إلى ذويهم وهو ليس بوليدة الماكينة الاقتصادية اللبنانية. وهذا يعني أنه ومع أيّ خلل في الاقتصاد العالمي – الذي من المتوقع أن ينكمش – فإنّ إفلاسات المواطنين ستظهر وتتفاقم وبالتالي ستعود ككرة النار على المصارف.
لذا وبهدف حماية المصارف والقطاع المصرفي قرّر حاكم مصرف لبنان سلامة أن يُخفّف من الإستهلاك عبر زيادة شروط الحصول على قروض التجزئة والتي تشمل القروض الإستهلاكية (سيارات، قروض طلاب، قروض تعليم)، القروض السكنية، وخطوط الإئتمان المتجدّدة (Revolving). وهذه القروض هي الأكثر شيوعاً في لبنان وبالتالي لا مفرّ سيكون من التداعيات على النموّ وعلى الاقتصاد.
ممّ يخاف مصرف لبنان؟
يخشى مصرف لبنان من ارتفاع الإستهلاك بشكل كبير خصوصاً أنه يطال قطاعَين أساسيَين: الشقق السكنية والسيارات، ما سيؤدّي إلى فقاعات خصوصاً في القطاع العقاري والذي يعتمد بشكل أساس على القروض السكنية.
وهنا خوف مصرف لبنان من أن يؤدّي التعرّض للقطاع الخاص من تخلف هذا الأخير عن دفع المستحقات (مع ارتفاع مديونية اللبناني) وهذا سيجعل المصارف عرضة لأزمة مالية قد تُطيح به في وقت حتى الدولة اللبنانية في حاجة إلى التمويل.
أيضاً يُمكن القول إنّ عدم التناغم بين الإستهلاك والإستثمار يُشكل مشكلة توازن في الدائرة الاقتصادية وهذا الأمر ينعكس على الدائرة المالية التي وبسبب إنقطاع الدائرة الاقتصادية لن تتغذّى من مصادر خارجية (تحويلات) ومصادر داخلية لا علاقة لها بالإقتصاد.
وخوف مصرف لبنان يكمن في أنّ هذه المصادر غير مستدامة، من هنا آثر مصرف لبنان إصدار هذا التعميم لضرب عصفورَين بحجرٍ واحد: حماية المصارف وتخفيف خطر الفقاعات. والإجراء الثاني هو عادة من صلاحيات السياسة المالية للحكومة وليس من صلاحيات السياسة النقدية التي في المبدأ لخدمة السياسة الاقتصادية.
وهذا يعني أنّ مصرف لبنان أصبح يقود مهمّات واسعة وأكثر شمولية لسدّ الفراغات القائمة. من هنا نرى أنّ من واجب الحكومة اللبنانية اتخاذ بعض الإجراءات الجريئة التي تُنقذ الاقتصاد اللبناني من المخاطر التي تتربّص بلبنان وإقتصاده.