انتقت النخبة السياسية، ممثلة بمجلس النواب، اقتراح قانون واحد، هو قانون الإيجارات الجديد، من بين سلة متكاملة من اقتراحات القوانين التي صاغتها لجنة الإدارة والعدل النيابية، تتضمن هذه السلة حلولا مختلفة لمسألة الإيجارات القديمة في إطار سياسة إسكان شاملة، وتشمل اقتراح قانون الإيجار التملكي الذي لا يتطلب تسديد المستأجر دفعة أولى، وإنشاء صندوق مالي لمساعدة المستأجرين الأكثر حاجة، وتطوير «أبنية سكنية اجتماعية»، ومواكبة كل هذه المشاريع بتدابير ضريبية ومالية مناسبة.
مرّت عملية الاجتزاء في خضم فوضى جلسات مجلس النواب، حيث «يضيع الشنكاش»، فيصعب على المتابع ترصّد مواقف النواب الحقيقية من المسائل الاجتماعية-الاقتصادية التي تمس مصالحهم الحياتية المباشرة. كان ذلك فحوى كلام النائب غسان مخيبر في ندوة تحت عنوان «سياسات الإسكان: نحو نموذج عادل اجتماعياً للتنمية الحضرية» نظمها معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت، بالشراكة مع مؤسسة كونراد أديناور.
لا سياسة إسكانية أو مؤسسات (في طليعتها مجلس النواب) تعمل على تطوير سياسة متكاملة للإسكان، في ظل انعدام قدرة معظم الشباب والفئات الاجتماعية الأكثر فقراً على تأمين المساكن حتى الصغيرة منها. تتسبب المضاربات العقارية والاستثمارات الريعية غير المجدية والأحكام الضريبية التي لا تضبط التفلت العقاري وتساهم بارتفاع حاد في أسعار المساكن، قال مخيبر، مشيراً إلى أن حجم تمويل السياسات الإسكانية قاصر عن تحقيق هدف تأمين الحق بالسكن اللائق لعموم المواطنين. رأى مخيبر أن تمديد قانون الإيجار القديم نقل عبء أو مسؤولية تأمين السكن من الدولة إلى قدامى المالكين، وتسبب ذلك بتوتير العلاقة بين «حزبَي» قدامى المالكين وقدامى المستأجرين. وفاقم الأزمة تلك، النزوح السكاني إلى بيروت وضواحيها، و«انحصار النشاط الاقتصادي ببيروت الكبرى»، في ظل غياب نظام نقل عام فعال ورخيص يسمح بالإيجار والتملك بكلفة منخفضة نسبياً في المناطق خارج بيروت الكبرى، قال مخيبر، واصفاً الصورة الماثلة أمام لجنة الإدارة والعدل عند مقاربتها قانون الإيجارات الجديد. «تقارب الدولة المسألة دون أرقام ووقائع» قال مخيبر، متحدثاً عن أرقام تقريبية وغير دقيقة جُمعت من مصادر مختلفة عند وضع اللجنة رزمة من اقتراحات القوانين تمثل سلة متكاملة توازن ما بين تنفيذ خطة إسكانية من جهة، وتحرير الإيجارات القديمة من جهة أخرى. يأسف مخيبر لانتقاء قانون الإيجارات الجديد وحده دون سائر قوانين السلة، فيما أبدى بعض الحضور تخوفهم من تمويل الصندوق المذكور من زيادة الضرائب على كاهل المواطنين، وأشار آخرون إلى تجارب الصناديق غير المشجعة، إن كان بإنشائها «لتبقى فارغة»، أو بالنهب المنظم لها. أبدى مخيبر استغرابه «لسهولة» وكثرة الحديث حول الشؤون الدولية في لبنان، فيما يغيب نقاش السياسات الاجتماعية-الاقتصادية، التي تقرر نوعية حياة المواطنين ومصالحهم، كالسياسة الإسكانية (أو غيابها)، ويجري تسليط الضوء على صدام قدامى المالكين وقدامى المستأجرين؛ وانتقد مخيبر طريقة تعاطي مجلس النواب مع المسائل الأخيرة، مشيراً إلى أن نظام المجلس يفرض على النواب التصويت على مشاريع واقتراحات القوانين إما بـ«مع» أو «ضد» أو «ممتنع عن التصويت»، على نحو يوضح مواقفهم دون التباس من المسائل المطروحة، بينما يجري التصويت حالياً على نحو فوضوي وبرفع الأيدي، دون أن يعد أحد الأيدي المرفوعة بطريقة صحيحة حتى، فيما نظام التصويت الإلكتروني لا يجري استعماله!
«النموذج الاقتصادي مشجع للطفرات العقارية»، قال مدير معهد الاستشارات والبحوث كمال حمدان، مشيراً إلى «توقف الدولة عن احتساب التضخم»، فيما أخذت أسعار العقارات والنفقات المرافقة للسكن منحى تصاعديا، في ظل ضيق القاعدة الاستثمارية خارج القطاع العقاري، وتمحور النموذج الاقتصادي حول الاستيراد لتلبية الاستهلاك، مقابل «تصدير رأس المال البشري» واستجلاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، سيما في القطاع العقاري. بحسب حمدان، ما يفسر القوة الجاذبة للقطاع العقاري هو أنه «الأقل خضوعا للضريبة»، ففيما يصل الحد الأقصى للضريبة على دخل الأفراد 23%، و22% على دخل الشركات، لا تتجاوز الضرائب على الربح العقاري 6.5%، بينما وصلت قيمة الصفقات العقارية إلى 10 مليارات دولار، وفيما بلغت نسبة الاستثمار في القطاع 72% من إجمالي الاستثمارات! يسأل حمدان إن كان صحيحاً أن ليس ثمة سياسة إسكانية في لبنان، مرجحاً وجود سياسة هي «البنت الشرعية» للنظام الاقتصادي، «منحازة لضرورات عمله»: فهناك «حاجة موضوعية» لإيجاد قنوات لتسليف فائض السيولة في المصارف اللبنانية محلياً، في ظل مخاطر التوظيف في أسواق المال العالمية، وخاصة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت عام 2008؛ يذهب القسم الأكبر من «التسهيلات المصرفية» في القروض السكنية إلى المغتربين والعرب غير اللبنانيين، فيما تبقى مستويات الدخل المحلية قاصرة عن تمكين ما يُفترض أنها الفئات المستهدفة بـ«الدعم» من تمويل شراء مسكن، الأمر الذي يتطلب «ما بين 25 و30 سنة عمل»، بحسب حمدان.