محمد كركوتي
أصدر مكتب الكونجرس لشؤون الميزانية تحديثا حول آخر تطورات الميزانية الأمريكية هذا العام، وتوقعاته حول اتجاهات الإنفاق والإيرادات ومعدلات التضخم والفائدة، ومن ثم اتجاه الدين العام الأمريكي في العقد القادم حتى عام 2024، وذلك بمناسبة انتهاء السنة المالية، ومن المعلوم أن نهاية السنة المالية في الولايات المتحدة تكون بنهاية شهر أيلول (سبتمبر) لتبدأ السنة المالية الجديدة في أول تشرين الأول (أكتوبر) من كل عام.
ما أثار انتباهي في تقرير مكتب شؤون الميزانية هو التحسن الواضح، الذي شهدته الأوضاع المالية للولايات المتحدة للسنة المالية المنقضية، الذي يتوقع أن يستمر أيضا هذا العام، فوفقا للتقرير يتوقع أن يحدث تحسن في أوضاع الميزانية الأمريكية في عامي 2014 و2015، بصفة خاصة فيما يتعلق بحجم العجز المتوقع في الميزانية، سواء من الناحية المطلقة أو كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن المعلوم أن السنوات الأخيرة قد شهدت تراجعا واضحا في العجز، غير أن انخفاض العجز في هذا العام جاء على نحو أكبر مما كان متوقعا، فقد كانت التوقعات تدور حول تحقيق الولايات المتحدة لعجز يبلغ نحو 3.7 في المائة من الناتج لهذا العام.
في السنة المالية 2012/2013 حققت الولايات المتحدة عجزا يصل إلى 680 مليار دولار، بما في ذلك مدفوعات الفوائد على الدين الأمريكي، وهو ما يمثل نحو 4.1 في المائة من الناتج، من المتوقع أن يصل عجز الميزانية لهذا العام إلى 506 مليارات دولار بما في ذلك مدفوعات الفوائد على الدين، بهذا الشكل ينخفض العجز بنحو 175 مليار دولار، وتنخفض نسبته بالتالي إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 2.8 في المائة فقط، وهو تراجع جوهري في غضون سنة واحدة، وترجع هذه التطورات الإيجابية إلى تزايد الإيرادات العامة للحكومة الأمريكية بنسبة 8.3 في المائة هذا العام، من 2775 مليار دولار إلى 3006 مليارات، في مقابل زيادة الإنفاق بنسبة 1.9 في المائة فقط، من 3455 مليار دولار إلى 3521 مليارا، وهو ما ساعد على تحقيق هذه النتائج المتميزة للميزانية.
كذلك يتوقع مكتب الكونجرس لشؤون الميزانية أن تستمر الإيرادات في التزايد بمعدلات مرتفعة في السنة المالية 2014/2015، من 3006 مليارات دولار، إلى 3281 مليار دولار، أي بنسبة 9.2 في المائة، بينما تتزايد النفقات من 3271 مليار دولار إلى 3750 مليار دولار على التوالي، بنسبة 7.9 في المائة، ونتيجة لهذه التطورات يتوقع أن يستمر العجز في التراجع إلى 469 مليار دولار.
من ناحية أخرى، فإنه وبالمقاييس التاريخية فإن هذا المستوى للعجز يعد أقل من متوسط نسبة العجز خلال الأربعين عاما الماضية، الذي يساوي 3.1 في المائة، فعندما بدأت الولايات المتحدة برنامجها للتحفيز المالي للاقتصاد الأمريكي في أعقاب الأزمة المالية العالمية، لدفع مستويات الطلب الكلي ومساعدة الاقتصاد على الخروج من حالة الكساد التي كان يمر بها في ذلك الوقت، ارتفعت نسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 9.8 في المائة في السنة المالية 2008/2009، وهي نسبة مرتفعة جدا.
ولكن هل ستؤدي هذه التطورات إلى تحسين أوضاع الدين العام الأمريكي؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى أن الدين العام لا يعتمد فقط على العجز، وإنما على مجموعة من العوامل من بينها بالطبع العجز، ذلك أن هناك علاقة متبادلة بين الدين والعجز من خلال الفائدة، بحيث تلعب مدفوعات الفائدة على الدين دورا مهما في اتجاهات العجز، وبالتالي على مستويات الدين ذاته، وحاليا تتمتع الولايات المتحدة بميزة انخفاض معدلات العائد على سنداتها مع انخفاض معدلات الفائدة، وارتفاع مخاطر السندات السيادية للسندات البديلة للسندات الأمريكية، غير أنه من المتوقع مع انتهاء الأزمة أن تأخذ معدلات العائد على السندات الأمريكية في الارتفاع، وبالتالي ترتفع تكلفة مدفوعات الفائدة على الدين، وأخذا في الاعتبار المستويات الفلكية الحالية للدين الأمريكي، فإنه من المتوقع أن تشكل الفوائد على الدين العام نسبا جوهرية من العجز المالي المتوقع في المستقبل، وهو ما يعني أن السياسات المالية غير المنضبطة التي اتبعتها الولايات المتحدة في الماضي، ستدفع لها الولايات المتحدة ثمنا غاليا ولفترات زمنية طويلة في المستقبل.
ومن الناحية النظرية يفترض أن يكون هناك توازن بين معدل الفائدة الحقيقي على الدين ومعدل نمو الناتج، فإذا ارتفع معدل الفائدة الحقيقي على الدين عن معدل النمو، فإن ذلك سيؤدي إلى نمو مستدام في حجم الدين، وبناء عليه فمن الممكن أن يترتب على تصاعد حجم الدين أن يؤثر ذلك بصورة سلبية على النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة على المدى الطويل، الأمر الذي قد يدفع المستثمرين إلى طلب معدلات أعلى من العائد على السندات الأمريكية لمواجهة المخاطر المالية، التي يمكن أن تصاحب هذا المستوى المرتفع من الدين العام، وهو ما يعقد الأوضاع بصورة أكثر وأكثر.
من ناحية أخرى، يلعب معدل التضخم دورا في رفع مستويات الدين، فمع ارتفاع معدلات التضخم تزداد مدفوعات الحكومة على السندات، التي توفر حماية لحامليها ضد ارتفاع معدلات التضخم، وحاليا تنخفض معدلات التضخم بشكل واضح عن تلك المستويات المستهدفة بواسطة الاحتياطي الفيدرالي، لكن التوقعات المستقبلية تشير إلى ارتفاع معدلات التضخم.
باختصار، فإنه ليس من المتوقع أن تتراجع قيمة الدين العام الأمريكي من الناحية المطلقة، وهو ما سيسهم في رفع نسبة الدين العام إلى الناتج، وهي المؤشر الأهم في هذا المجال، التي ستعتمد على معدل النمو في الدين بالنسبة إلى معدل النمو في الناتج، ومن الواضح وفقا لتوقعات مكتب شؤون الميزانية أن نسبة النمو في الدين العام ستتجاوز نسبة النمو في الناتج، وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي في العقود القادمة.
هذا العام يتوقع أن تصل نسبة الدين العام الذي يحتفظ به الجمهور (لا يشمل السندات التي تحتفظ بها الجهات الحكومية من الدين) إلى الناتج إلى 74 في المائة، مرتفعة من 72 في المائة في العام الماضي، غير أن هذه التطورات الإيجابية في العجز ستبطئ من معدل نمو نسبة الدين إلى الناتج، وبدءا من السنة المالية 2018/2019 ستأخذ نسبة الدين إلى الناتج في الارتفاع حتى تصل إلى 77.2 في المائة في عام 2024.
والآن نعود إلى التساؤل الأساسي وهو هل استعادت بالفعل الحكومة الأمريكية سيطرتها على الميزانية؟ الإجابة هي مع الأسف لا. فتوقعات العجز في المستقبل تميل نحو التصاعد، على سبيل المثال يتوقع أن يبدأ العجز في التصاعد مرة أخرى في 2016 ليصل إلى 556 مليار دولار، ويرتفع إلى 737 مليار دولار في 2020، ونتيجة لذلك ترتفع نسبة العجز إلى الناتج إلى 3.3 في المائة، أي أعلى من المعدلات المتوسطة خلال الفترة الماضية. وبحلول عام 2024 يتوقع أن يطرق العجز مرة أخرى حاجز التريليون دولار، لترتفع نسبته إلى الناتج إلى 3.6 في المائة.
الخلاصة هي أن أفضل ما يمكن أن نصف به هذه التطورات الإيجابية الحالية في الميزانية الأمريكية هو أنها تطورات طارئة، وليست مستدامة، وأنه سرعان ما ستذوب آثارها ويعود الوضع المالي السيئ إلى ما كان عليه، وأن الولايات المتحدة تدفع ثمنا رهيبا اليوم لمغامراتها المالية التي صبغت سياسات الإنفاق غير المنضبط، بصفة خاصة في مجال الإنفاق العسكري منذ بداية الألفية الثالثة، وكذلك الدين العام المتصاعد لمستويات فلكية. ومن الواضح أنه بكل السيناريوهات المتاحة في الوقت الحالي، فإن الولايات المتحدة لن تستعيد سلامتها المالية، حيث يتوقع أن يرتفع معدل العائد على أذون الخزانة (ثلاثة أشهر) من صفر تقريبا اليوم إلى نحو 3.5 في المائة في عام 2024، بينما يرتفع معدل العائد على السندات استحقاق عشر سنوات من نحو 3 في المائة حاليا، إلى نحو 5 في المائة في 2024.