بزيه العسكري وبندقيته التي يضعها على وركه، يشكل الملازم جون نورس مشهداً مخيفاً قليلاً حين ينزلق عبر السفوح المغطاة بالأشجار، المطلة على الطرف الجنوبي لوادي السليكون في ولاية كاليفورنيا. لكن ما أتى حارس الحياة البرية البالغ من العمر 45 عاماً، للوقوف عليه يعد أكثر إثارة للقلق.
هنا، في حرارة أواخر الصيف وغير بعيد عن المقرين الأنيقين لعملاقي التكنولوجيا “أبل” و”جوجل”، يتوجه الملازم نورس إلى رقعة من الأرض المتدرجة المخبأة بعناية، التي تتخللها مئات من الثقوب الضحلة التي احتوت حتى وقت قريب جداً على نباتات الماريجوانا الشاهقة. يقول الملازم نورس: “كان هناك نحو ألفي نبتة”. ويشرح كيف أطلق أخيرا هو وزملاؤه من قسم الأسماك والحياة البرية في كاليفورنيا غارة في الصباح الباكر على المزارع، واقتلعوا محاصيل قيمتها نحو ستة ملايين دولار تعود لعصابات المخدرات المكسيكية التي تزرعها. كانت كاليفورنيا من الولايات الرائدة التي تسمح باستخدام الماريجوانا لأسباب طبية. لكنها لم تقتف حتى الآن خطى ولايات مثل كولورادو التي تسمح باستخدامها لأغراض الترفيه. وعلى أية حال، كان هذا المحصول على أراض تابعة للدولة، ما يجعل إزالته غير قانونية وخطيرة – شهد الملازم نورس عدة عمليات لتبادل إطلاق النار على مدى العقد الماضي.
ويقدر أن كل مزرعة من مزارع المخدرات التابعة للعصابات تحتوي في المتوسط على خمسة آلاف نبتة، وأن كل واحدة منها تمتص ما بين ثمانية و11 جالوناً من الماء يومياً، اعتماداً على الوقت من العام. وهذا يعني أن 80 مليون جالون من المياه على الأقل – ما يكفي لأكثر من 120 بركة سباحة أولمبية – يتم سرقتها على الأرجح يومياً في الولاية التي تعاني بعض أجزائها ندرة الماء في الوقت الذي يقلص فيه جفاف مضت عليه ثلاث سنوات مكامن الماء، ويترك حقولا بورا، ويجفف الآبار إلى درجة أن نحو 1300 شخص لا توجد مياه في صنابير منازلهم لعدة أشهر.
وأعلن جيري براون، حاكم ولاية كاليفورنيا، حالة الطوارئ في كانون الثاني (يناير) الماضي بعد أكثر السنوات جفافاً على الإطلاق في عام 2013. ومع اقتراب موسم الأمطار السنوي يقول مسؤولون حكوميون إن احتمال الشفاء الكامل من الجفاف هذا الشتاء يعد أمراً مستبعداً إلى حد كبير.
يقول الملازم نورس، وهو ينخز كومة من الأنابيب البلاستيكية التي يستخدمها المزارعون لتحويل المياه من مجرى جف بالقرب من المزارع: “زراعة الماريجوانا هي أكبر الجرائم المتصلة بالجفاف الذي نواجهه الآن”. لكن الجفاف في ولاية كاليفورنيا يكشف عن سلسلة من المشكلات في الولاية الأمريكية الأكثر اكتظاظا بالسكان، الأمر الذي يذكرنا بقول شعبي مأثور أورده كاتب عمود صحافي يدعى مايكل كنسلي: الفضيحة لا تدور غالبا حول ما هو غير قانوني ولكن حول ما هو قانوني.
تزايد المنافسة
سرقة 80 مليون جالون من الماء يومياً عن طريق عصابات الماريجوانا المدججة بالسلاح يعد بلا شك مصدر قلق خطير، خصوصاً عندما تتأثر الولاية بأكملها من الجفاف ويتم تصنيف 58 في المائة منها على أنه في “جفاف استثنائي”، كما حددها جهاز مراقبة الجفاف الأمريكية الذي تموله الحكومة.
مع ذلك، هذا جزء بسيط من الماء الذي يُستخدم بشكل قانوني كل يوم في ولاية لديها، مثل كثير من أجزاء العالم الأخرى، عدد سكان متزايد يدفع منافسة متزايدة على إمدادات تخضع لقوانين تنظيمية مشددة، وهي إمدادات لطالما كانت تعد أمراً مفروغاً منه ـ وقد تواجه مخاطر إضافية نتيجة تغير المناخ.
كانت كاليفورنيا دائماً ولاية جافة. لمدة ستة أشهر تقريباً من العام يحصل كثير من مواطنيها على القليل من المطر. وكانت هناك على الأقل تسع موجات جفاف على مستوى الولاية منذ عام 1990، وذلك دون احتساب الموجة الأخيرة. تاريخ الولاية يتسم بحروب الماء، من بينها الصراعات المُحيطة بخطوة لوس أنجلوس لسحب معظم مياه نهر أوينز في القرن الماضي، التي ألهمت الفيلم الكلاسيكي، تشايناتاون، في عام 1974. ذلك النزاع كان على جزء واحد فقط من نظام القنوات والخزانات الواسع الذي تم بناؤه في الأعوام المائة الأخيرة، التي كانت السبب وراء وصف كاليفورنيا بأنها أكثر كتلة أرضية متغيرة هيدرولوجياً على كوكب الأرض. يوجه النظام حركة الماء من المناطق الرطبة إلى الجافة، باستخدام الأنهار والجداول التي في سنة عادية تكون مليئة بمياه الثلوج الذائبة من السلاسل الجليدية التي تحيط بالولاية، وتقوم بتزويد نحو ثلث مزارع ومدن كاليفورنيا بالماء. لكن الأزمة أكثر حدة لأن انخفاض تساقط الثلج أدى إلى تفاقم المشكلات الناجمة عن قلة الأمطار. وسجلت كثافة الثلوج الجبلية 18 في المائة فقط من المتوسط في وقت سابق من هذا العام، وهي حالة يقول العلماء إنها يمكن أن تتكرر في الوقت الذي يزداد فيه المناخ دفئا. ونتيجة لذلك ثمانية من الخزانات الرئيسة كانت الأسبوع الماضي تحتفظ بأقل من نصف متوسط طاقتها التخزينية في مثل هذا الوقت من العام. لقد تراجعت مستويات الخزانات بشكل مثير للقلق عندما عملت موجة جفاف سيئة على إلحاق الضرر بولاية كاليفورنيا في عامي 1976-1977، لكن كان هناك أقل من 22 مليون نسمة في الولاية في ذلك الحين، مقارنة بـ 38.3 مليون نسمة الآن.
كذلك كانت هناك قوانين أقل مثل تلك التي تحمي مخلوقات كأسماك “دلتا” المهددة بالانقراض، وهي سمكة بحجم إصبع اليد يمكن أن تتأثر بطريقة إدارة نظام القنوات، الأمر الذي يدفع إلى فرض قيود على ضخ المياه التي يستخدمها قطاع الزراعة الذي يشكل نحو 80 في المائة من استخدام المياه البشري في الولاية. وتتسبب هذه القوانين باستمرار في إثارة نقاش بين المحافظين على البيئة والمزارعين أثناء موجات الجفاف – وهي تفعل ذلك مرة أخرى اليوم.
قصة المزارع
يقول بارات بيسابري، وهو مزارع حمضيات ولوز تقع أراضيه في سنترال فالي، إحدى المناطق الأكثر تضرراً بموجة الجفاف: “أنا أعمل في الزراعة بطريقة صديقة للبيئة جداً، لكن هذه اللوائح جعلت الأمر أسوأ بالنسبة للمزارع”.
هذا القطاع الخصب المنبسط يمتد جنوباً نحو 450 ميلاً من الأراضي الشمالية لوادي ساكرامنتو داخل قلب الولاية ويُزرع فيه كثير مما يأكله سكان أمريكا. فنحو نصف الفواكه والمكسرات التي تنمو في الولايات المتحدة تأتي من كاليفورنيا، بما في ذلك 80 في المائة من اللوز في العالم. والكثير من تلك النباتات يأتي من سنترال فالي، حيث الزراعة تجري على مستوى صناعي. وتنمو المحاصيل والأشجار حتى حافة منازل السكان. وعند المرور بسيارة على طرق الوادي المستقيمة والطويلة، من المدهش رؤية بستان من الأشجار البنية الميتة بجانب بستان آخر مع برك من الماء حول أشجار سليمة. هذا جزئيا قد يكون من أعراض نظام حقوق المياه المعمول به منذ قرن، الذي يقول النقّاد إنه ضعيف جداً وقديم، بحيث يجعل من الصعب على المنظمين معرفة إمدادات من هي التي ينبغي تخفيضها خلال موجة الجفاف. مأزق بيسابري الكئيب يُظهر سبب تقدير إحدى الدراسات أن موجة الجفاف ستكلف الولاية 2.2 مليار دولار في عام 2014.
من نوافذ منازل المزارع الفسيحة التي تطل على صفوف متراصة من أشجار الحمضيات في الأرض الزراعية، يشير بيسابري إلى اثنتين من الممرات المائية الرئيسة في كاليفورنيا، قناة دلتا ميندوتا وقناطر كاليفورنيا. وكلاهما يجري في خط مستقيم داخل مزرعته، لكن بسبب موجة الجفاف قيدت السلطات بشكل كبير كمية المياه التي يستطيع كثير من المستخدمين أخذها منها. ويقول بيسابري: “لسوء الحظ لا يمكننا الحصول على المياه من أيّ من المصدرين هذا العام”، موضحا كيف أنه قبل بضعة أسابيع استخدم جرافات لاقتلاع 85 فدانا من أشجار اليوسفي والبرتقال والجريب فروت السليمة التي كانت ستستخدم الكثير من الماء على نحو يجعل بقية المحصول ذا قيمة أدنى بكثير.
ويضيف، أثناء توجهه إلى بقع خالية كانت توجد فيها أشجار ذات مرة: “لقد كان علي اتخاذ قرار إزالة بعض الأشجار حتى تتمكن الأخرى من النجاة. لو لم أتخذ ذلك القرار وأبقيتُ على كل أشجار الحمضيات التي كانت لدينا، عندها كانت المياه ستنفد في منتصف شهر آب (أغسطس)”.
وهذه معضلة تواجه المزارعين عبر سنترال فالي، وكثير منهم تحول من زراعة نباتات مثل الطماطم أو الفلفل إلى نباتات ذات قيمة أعلى مثل اللوز أو أشجار أخرى لا يمكن أن تُترَك دون ري في السنين الجافة. النباتات المعمرة، مثل المكسرات والعنب، شكلت 32 في المائة من المساحات المزروعة بمياه الري في الولاية، ارتفاعاً من 27 في المائة في 1998. وكان هذا التحول ملموساً حتى أكثر من ذلك في جنوب سنترال فالي، وبالتالي عندما يضرب الجفاف، يواجه المزارعون خيارات صعبة. على بعد بضعة أميال على الطريق جنوب مزرعته، يتوقف بيسابري مشدوهاً من منظر بستان لوز تنتشر فيه الأشجار الذابلة: آلة زراعية ضخمة تقتلع عدة أشجار في وقت واحد وتضعها في آلة أخرى تتولى طحنها بصوت أجش لتحولها إلى نشارة الخشب. ويقول: “هذه بالضبط الآلة نفسها التي استخدمتها في أرضي”. اضطر بيسابري إلى جلب الماء من مصادر أخرى هذا العام، لكنه يقول إن السعر كان تقريباً 1.2 مليون دولار، أي عشرة أضعاف ما كان عليه في السنة الماضية. وهذا المبلغ لا يشتمل على ربع مليون دولار أنفقه على حفر آبار جديدة في محاولة للحصول على الماء من المصدر الذي كان المزارعون وأهل المنطقة دائماً يلجأون إليه في أوقات الجفاف، وهو المياه الجوفية.
تحول جيولوجي
في السنة الطبيعية، تزود الطبقات الحاملة للماء نحو ثلث ماء الولاية. وفي فترات الجفاف، يمكن لهذه النسبة أن ترتفع إلى مستوى عال في حدود 60 في المائة. لكن أحد الجوانب التي تنذر بالخطر في فترة الجفاف الحالية هو أن مستويات المياه الجوفية آخذة في التراجع. تقول ميشيل سنيد، وهي مختصة في هندسة الماء لدى الوكالة الجيولوجية الأمريكية، التي تراقب مستويات المياه الجوفية في سنترال فالي: “تنخفض مستويات الماء بسرعة لا تصدق في بعض الأماكن، حيث تصل إلى 100 قدم في السنة. هذا مستوى متطرف للغاية. في العادة حين تتحدث مع مهندسي المياه، إذا كنتَ تتحدث عن بئر تنخفض بمعدل 10 أقدام في السنة، فإن هذا سيلفت الأنظار بقوة. وتنهمر الأسئلة: حقاً؟ 10 أقدام؟ والآن ينخفض المستوى بنسبة 10 أضعاف ذلك”.
إن استنزاف هذا المورد الحيوي ليس فقط مبعث قلق لأن من الصعب تماماً إعادة تعبئة بعض الطبقات الحاملة للماء حين ينحسر الجفاف في النهاية. بل إنه أيضاً يخلق معدلات غير عادية من انخفاض وهبوط الأرض، لأنه في الوقت الذي تختفي فيه المياه الجوفية فإن الأرض فوقها يمكن أن تهبط.
في أحد أجزاء الوادي كانت الأرض تنخفض بمعدل قدم واحدة تقريباً في السنة، وهو معدل تقول عنه سنيد إنه من بين أسرع المعدلات في أي مكان في العالم. وتضيف أن هذا يحدث دماراً في نظام القنوات الذي أنشأته كاليفورنيا لتقليص اعتمادها على المياه الجوفية، لأن ممرات المياه المذكورة تعتمد على الجاذبية من أجل الحصول على تدفق ثابت، وحين تبدأ أجزاء من القناة بالهبوط، فإن هذا يوجد منطقة منخفضة تحتاج إلى كميات أكبر من المياه حتى تمتلئ قبل أن يصبح من الممكن استمرار حركة الماء إلى مناطق أخرى.
نفاد الماء
على بعد ساعتين بالسيارة إلى الجنوب من مزرعة بيسابري، تعاني بلدة إيست بورترفيل مشكلات أكثر إلحاحاً في المياه الجوفية. على الأقل 1300 شخص في البلدة يعتمدون في مياه الشرب والاستحمام على آبار أخذت تجف مع اشتداد القحط. تقول دونا جونسون، المستشارة المتقاعدة البالغة من العمر 72 عاماً، التي تعطي الماء لعشرات الأسر التي لا يوجد لديها ماء من على ظهر سيارة نقل تمتلكها: “نفد منا الماء في حزيران (يونيو)”. وتعتمد جونسون على خرطوم يمتد إلى منزلها من أحد الجيران الذي لا تزال بئره تحتوي على الماء. وحتى الآن كانت كاليفورنيا بارزة بين الولايات الغربية الجافة من حيث نهجها في المياه الجوفية القائم على مبدأ اسحب مثلما تريد من الماء. فهناك جماعة ضغط زراعية قوية تقاوم المحاولات المتكررة للإصلاح.
لكن شدة القحط الحالي أدت في النهاية إلى مجموعة من الإجراءات التي تم توقيعها لتصبح قانونا في أيلول (سبتمبر)، والتي ألزمت الوكالات المحلية بمراقبة وإدارة الآبار، وإلا فإنها تواجه تدخل الولاية. ويقول بعض المنتقدين إن القانون جاء دون الحد المطلوب وبعد فوات الأوان، ذلك أن كثيرا من الوكالات المحلية سيكون أمامها ما بين خمس إلى سبع سنوات لتأتي بخطط، ولديها حتى عام 2040 لتنفيذ تلك الخطط. ويرى آخرون أن هذا يظل أفضل من لا شيء. يقول روبرت جلينون، أستاذ القانون في جامعة أريزونا، ومؤلف كتاب بعنوان “ظمأ لا ينطفئ: أزمة الماء في أمريكا وماذا يجب أن نفعل حيالها”: “هذه خطوة عملاقة بالنسبة لكاليفورنيا. باختصار أنت لا تستطيع إدارة ما لا تستطيع قياسه”.
وربما تشجع الأزمة كذلك على الموافقة على إجراء آخر سيتم التصويت عليه في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، يسمح باقتراض مليارات الدولارات من أجل مكامن جديدة وخطوات أخرى لتعزيز المقاومة ضد الجفاف. ولن يفيد أي من ذلك في مساعدة المزارعين مثل بيسابري، أو المواطنين في إيست بورترفيل هذا العام. ومع ذلك، فهو مثال آخر على الكيفية التي تستجيب بها الولاية غالبا لحالات الجفاف الشديد، كما يقول جاي لوند، وهو خبير في مجال المياه في جامعة كاليفورنيا في ديفيس.
ويضيف: “كل حالة من الجفاف تأتي بابتكار جديد ونقول: (هذا شيء لم نكن نفعله في الماضي في حين أنه في الواقع مفيد)”، مشيرا إلى أنظمة الري، ومكامن الماء، وأسواق الماء التي انطلقت بعد حالات جفاف سابقة. ويقول: “في هذا الجفاف، ما حصلنا عليه حتى الآن هو القوانين التنظيمية الخاصة بالمياه الجوفية”. لكن هل ستحقق أثرها في النهاية؟ فيجيب: “إنها تفتح الباب”. لا يعد هذا عزاء كبيراً حين تشير أحدث التوقعات من مركز التنبؤ بالمناخ إلى أن الجفاف “يرجح له أن يستمر، أو يشتد في أجزاء واسعة من الولاية” خلال الشتاء الحالي. ويقول أندرو لوكمان، مدير خدمات الطوارئ المسؤول عن بلدة إيست بورترفيل: “إذا لم يكن هناك ماء ليعيش الناس عليه، وكنتَ تفتقر إلى أساسيات الحياة، فإن السكان سيغادرون البلدة. المحرك الاقتصادي الأساسي لدينا هو الزراعة. إذا لم يكن هناك ماء لري النباتات، فلن تكون لدينا أعمال زراعية، وبالتالي فإنك تستطيع أن ترى أن اقتصاد هذه المنطقة قد تعرض للدمار”.