يصدُر مؤلف هذا الكتاب عن خبرة واسعة وعميقة ومباشرة تكّونت لديه من خلال المعايشة المباشرة للواقع الأفريقي الذي أتيحت له دراسة أبعاده ومتغيراته على الطبيعة كما يقولون.
ومن أبرز تلك المتغيرات التي شهدتها الحقبة الممتدة من أواخر عقود القرن الماضي وحتى الآن، ما يتجلى في العنصر الصيني الوافد إلى أرض القارة الأفريقية، الذي كانت بدايات وجوده في آواخر سبعينات القرن الماضي، ومن ثم كانت تطوراته وآماد اتساعه ومراحل تطوره على مدار التسعينات وحتى الآن، حيث تجسد هذا الوجود الصيني أولاً في المشاريع المشتركة بين الدول الإفريقية التي كانت خارجة من ربقة الحقبة الاستعمارية ومواريثها وتداعياتها، وبين الصين التي كانت قد اعتمدت سياسة الانفتاح تحت حكم دنغ شياو بنغ وما بعده.
ولقد ظلت هذه العلاقات التي بدأت في المجال التجاري في حال من النضوج والتزايد حتى وصلت إلى خانة المليارات على شكل شبكات للطرق وعمليات بناء وتشييد للمرافق العامة وما في حكمها، وهو ما قامت به الصين، ولكن في إطار صفقات مقايضة، كما يصفها الكتاب، بحيث يقدم الطرف الإفريقي في المقابل اتفاقات أو امتيازات لصالح الطرف الصيني في استغلال الثروات الطبيعية الإفريقية- المعدنية بالذات وعلى مدار فترات زمنية محددة، ثم تطورت العلاقة مؤخراً على شكل موجات هجرة وصلت إلى خانة المليون من الوافدين الصينيين إلى الأرض الإفريقية.
في سنة 1884، أي منذ 130 سنة، عقدت الأطراف الأوروبية الكبرى مؤتمراً شهيراً في العاصمة الألمانية برلين، حيث بسطت أمامها خارطة القارة الإفريقية بقصد التنافس على استعمارها وبالتالي على احتلال أراضيها ونهب مواردها. ثم كان قصاري الساسة والمؤرخين في الغرب أن أطلقوا على الاجتماع المذكور الوصف التالي: مؤتمر التسابق على إفريقيا
لكن ها نحن نفاجأ من خلال متابعتنا للساحة الفكرية في الغرب نفسه بمن يستخدم مصطلحاً آخر: يطلق على نشاط الصين الحالي في أنحاء القارة السمراء، وصفاً صارخ الدلالة، حيث ينصرف إلى المعنى التالي: »الغزو الصيني لإفريقيـــا«.وهذا هو بالضبط العنوان الذي يطلقه الأكاديمي- الصحافي الأميركي إيان جونسون على موضوع الكتاب الذي نعرض لمضامينه فيما يلي من سطور.
مؤلف كتابنا يجمع بين النهج الأكاديمي، حيث يعمل أستاذاً جامعياً لعلوم الاتصال والإعلام، وبين الصحافي المحترف، حيث عمل مراسلاً للنيويورك تايمز في أنحاء شتى من العالم، وهو ما أتاح له بطبيعة المهنة الإعلامية، فضلاً عن عقلية الباحث الأكاديمي، أن يتعايش مع الوضع المستجد في القارة الإفريقية أو ما يمكن وصفه على نحو يقول: الظاهرة الصينية في إفريقيــا. لهذا يختار مؤلفنا لكتابه الذي بين أيدينا عنواناً رئيسياً غريباً أو طريفاً وهو: قارة الصين الثانية
ولا يلبث أن يشفع هذا العنوان الغريب بالعنوان الفرعي الأكثر صراحة الذي يقول: كيف يعمل مليون مهاجر على بناء إمبراطورية جديد في إفريقيا؟
البحث عن الذهب
وبديهي أن كتابنا سوف يتناول عبر الفصول والصفحات أوضاع الوجود الصيني في إفريقيا، لا من منظور العلاقات العادية أو المألوفة بين الدول، ولا على أساس المنظومة الطبيعية للروابط والوشائج التي تتنوع فيها ميادين التعاون في المجالات الاقتصادية، الثقافية، السياسية، الإعلامية، إلخ على نحو ما تعارفت عليه الساحة الدولية. إن محور طروحات هذا الكتاب يدور بالذات حول مقولة يمكن أن نلخصها، على ضوء أفكار المؤلف في العبارة الآتية: إفريقيا هي الدورادو الجديدة بالنسبة للصين. بالمناسبة، الدورادو هي رمز لمدينة الذهب الأسطورية، التي طالما راودت أحلام الباحثين عن مناجم المعدن النفيس في أقطار الأميركتين.
والمعنى بالطبع هو أن إفريقيا أصبحت بالنسبة للصين هي الدورادو، أي أرض الطموح إلى الثراء بفضل ما أدركه الصينيون مما تحفل به القارة العذراء من إمكانات زراعية وموارد طبيعية وركازات وثروات معدنية، فضلاً عن مساحات رأوها شاسعة مترامية الأطراف من الأراضي، التي يمكن أن تتسع لآلاف مؤلفة من مهاجري الصين إلى أرض الدورادو، الواعدة في إفريقيا.
وبعيداً عن مجرد التغني بأحلام الذهب، يسارع مؤلف هذا الكتاب، البروفيسور هوارد فرنش، فيقتحم بنا بشكل مباشر الأصول المادية الملموسة أو المحسوبة لعلاقات الصين المستجدة مع إفريقيا: وهنا يحيل المؤلف إلى إحصاءات عام 2012 التي أفادت بحقيقة اقتصادية تقول بدورها: إن حجم تجارة الصين في القارة الإفريقية منذ عامين فقط بلغ 200 مليار دولار.
ومعنى هذا أن هذا الحجم يشكل أكثر من 20 ضعف الأموال التي بدأت بها العلاقة التجارية الإفريقية الصينية عند مطلع هذا القرن الجديد. وأن هذه الأموال الطائلة تجسّدها حقيقة باتت متداولة في أوساط الأعمال البيزنس الدولية، حيث تشير الحقيقة إلى أن نسبة الثلث من صناعة البناء والتشييد بأكملها أصبحت على أرض القارة السمراء من نصيب الصين الشعبية .
القارة رقم 2
يلاحظ المؤلف مثلاً أنهم باتوا يطلقون على إفريقيا مصطلح القارة الثانية بعد الصين. ويلاحظ أيضاً أن جموع الوافدين إلى هذه الدياسبورا من أقصى الشرق الآسيوي باتت تجسد مجتمعاً بشرياً فيه كل سمات ومميزات وأيضاً سلبيات ومتناقضات المجتمع البشري. ثم يستثمر المؤلف تكوينه الأكاديمي أيضاً، حين يجهد في تقصي جذور هذه الدياسبورا الوافدة من أرض الصين، يقول إن بدايات ظهور الصين بوصفها قوة يُعتّد بوجودها على الأرض الإفريقية إنما ترجع إلى عام 1978 على وجه الخصوص. لمــذا؟ لأن العام المذكور هو الذي شهد صدور القرار من جانب الحزب الشيوعي الحاكم في بكين بالسماح للأفراد بحيازة وتملّك الأرض، وهو ما أتاح للفلاحين في ربوع الصين وقتها أن يبيعوا المحاصيل التي ينتجونها. وفي الوقت نفسه ساعدت سياسة الانفتاح التي قادها زعيم الصين دنغ شياو بنغ خليفة زعيمها التاريخي ماوتسي تونغ- على تحرير الأسواق واتساع صناعات التصدير وإعادة توجيه سياسة الصين الخارجية بحثاً عن أسواق ومصادر خارجية، ثم تشاء مصادفات التاريخ أن تكون إفريقيا في تلك الفترة ـ ابتداء من ثمانينات القرن- في مرحلة تحولات جذرية امتدت إلى آواخر القرن العشرين، وخاصة في ضوء نصائح أو وصفات صندوق النقد والبنك الدولي فضلاً عن جماعات المانحين من دول الغرب الأوروبي.
لحظة فارقة.. لمــاذا؟
تلك هي اللحظة الزمنية الفارقة التي تلاقت فيها مصالح وتوجهات صين تتطلع إلى خارج حدودها مع مصالح وتوجهات دول إفريقية تتطلع إلى شريك من هذا، الخارج، فيما لقيت آذاناً لا تصغي، بل واجهت مواقف الإهمال من جانب دول الغرب، وهو ما مهد السبيل أمام بدء علاقات إفريقيا مع الصين، التي جاءتها غير مثقلة بالطبع بمواريث التركة الفادحة المتخلفة عن الحقبة الاستعمارية التي عاشتها إفريقيا ضحية الاستنزاف الاستعماري من جانب دول أوروبا.
لا عجب إذن أن تبادر الصين في الآونة الأخيرة إلى الإعلان عن المزيد من المشاريع المليارية الطموحة التي تزمع تشييدها في إفريقيا، ومن هنا نفهم ما جاء في زيارة لي كوانغ رئيس وزراء الصين إلى القارة الإفريقية في أوائل شهر مايو الماضي، حين أعلن أن بلاده تخطط لكي تضاعف حجم تبادلها التجاري مع إفريقيا بحلول عام 2020 فيما تطمح إلى زيادة ما توظّفه على أرض القارة السمراء من استثمارات بمقدار 4 أضعاف مع حلول العام المذكور.
في السياق نفسه أيضاً، يستعيد المؤلف مع قارئيه ذكريات عام 2006 الذي شهد مولد مؤسسة أصبحت ذات أهمية محورية في علاقات الصين مع القارة: نتحدث عما شهدته العاصمة بكين من انعقاد منتدى التعاون بين الصين وإفريقيا الذي ضم في فعالياته مندوبي 48 دولة جاءوا من كل أنحاء القارة السمراء، وكان أول ما طالعوه تلك اللافتات التي حملت عبارات من قبيل: إفريقيــــا المذهلــة.
يومها تناثرت التعليقات على هذا المشهد غير المسبوق، وكانت في معظمها تقول بما يلي: هكذا، وعلى غير انتظار، أفاق العالم على حقيقة أن إفريقيا قد طرق بابها عنصر جديد جاء يخطب ودّها أو يطلب يدها جنباً إلى جنب مع السيدين (القديمين) من عصر الاستعمار، وهما إنجلترا وفرنسا، فضلاً عن السيد المستجد الذي خرج يومها فائزاً في سباق الحرب الباردة، وهو الولايات المتحدة الأميركية.
في حواري موزمبيق
ولقد تُوغل دراسات وتحليلات مؤلف كتابنا إلى حد التعمق في صميم الحياة اليومية التي باتت تشهدها هذه البقعة أو تلك من أصقاع القارة الإفريقية، والحق أن كان المؤلف يستند في هذا المسعى التحليلي المتعمق إلى إجادته لغة الماندارين، وهي اللسان الأساسي لأهل الصين، وها هو الدكتور هوارد فرنش يتجول في أحياء موزمبيق فيصادف مواطناً صينياً يطلق عليه في واحد من فصول الكتاب وصف المزارع الرائد، اسمه هــــوا وجاء من موطنه في الصين ليس فقط لكي يمتلك مزرعة ويبني بيتاً يليق بفلاح موسر، بل جاء كما يضيف المؤلف لكي يؤسس أسرة وينشئ سلالة أو عشيرة يزرع جذورها في أرض القارة العذراء، لهذا ـ يضيف المؤلف- فقد بادر هوا إلى إحضار ابنيه الاثنين من الصين ضمن مشروع يقضي بزواجهما من النساء الإفريقيات أملاً في مواصلة الإنجاب، ومن ثم في زواج الأحفاد.
هنا نحمد لمؤلف كتابنا نظرته المنفتحة، حتى لا نقول المتفهمة أو حتى المستنيرة، إلى مثل هذه العينات من رواد الاستيطان الصيني في إفريقيا: صحيح أنه يتوقف ملياً عند جانب استفادتهم من أوضاعهم الجديدة، ولكنه استثمر إلمامه بلغتهم ومعرفته بثقافتهم وأعرافهم الوطنية، فلم يصدر عليهم الأحكام التي درج على إصدارها المحللون الأوروبيون أو الدارسون والمراقبون الأميركيون، ومنهم من لا يتورع عن وصف الوجود الصيني بأنها نزعة استعمارية جديدة أو موجة استعمارية جديدة باتت تجتاح أصقاع القارة الإفريقية.
ثلث صناعة البناء والتشييد الإفريقية من نصيب بكين
يبادر المؤلف إلى إيضاح أن صناعة البناء- التشييد تجسد اتجاه الصين إلى إيفاد أو ابتعاث أو نقل أعداد غفيرة من مواطني العملاق الديمغرافي الآسيوي إلى حيث يفدون كمهاجرين بقصد الاستقرار والعمل في إفريقيا بل وتحقيق نجاحات سوبر- مرموقة، حيث يعيدون كما يقول المؤلف ــ تشكيل أو صياغة مرافق وجوانب شتى من حياة الأفارقة ما بين الهياكل الأساسية، البني التحتية، الأنشطة التجارية، وغيرها.
ثم يسترعي اهتمامنا في معرض قراءة وتحليل مادة هذا الكتاب ما يصفه المؤلف بأنه تجارة المقايضة التي ما برحت تشكل واحداً من أساليب علاقات الطرفين الأصفر (الصيني) والأسمر (الإفريقي).
صحيح أن المقايضة أسلوب عفّا عليه الزمن وتجاوزته مراحل التطور، إلا أن الطرفين الأصفر والأسمر عملا على إحيائه بشكل تفّسره فصول هذا الكتاب على النحو التالي: هذا البلد الإفريقي أو ذاك يحصل من الصين على طريق أسفلتي بالغ الإتقان من حيث التمهيد والتنسيق.
بلد إفريقي آخر يحصل على الإستاد الرياضي، الذي تتوفر القدرات والأموال الصينية على بنائه في واحد من أحياء العاصمة الإفريقية، فإذا بها وقد حققت حلماً راود المواطنين الأفارقة على مدار سنوات منذ أيام الاستقلال السياسي، في عقد الستينات أو عقد السبعينات من القرن الماضي.
وفي المقابل، وطبقاً لسياسة المقايضة، يحصل الطرف الصيني على عقد ممهور بتوقيع كبار المسؤولين الأفارقة ومحّصن بكل بنود الصحة القانونية وشروط النفاذ حسب الأصول. والعقد يتيح للطرف الصيني استخراج الثروات المعدنية بكل أنواعها من باطن المناجم الإفريقية، فيما تمتد صلاحية التعاقد على مدار عدد محسوب من السنين.
في هذا السياق يعمد المؤلف ــ بفضل حاسته الصحافية- لا إلى مجرد مراجعة الملفات أو استقاء الأرقام فقط، بل إلى إثراء حصيلة الكتاب من خلال عشرات المقابلات المهمة التي أجراها مع عيّنات شتى من أفراد الدياسبورا، مهاجر الشتات التي أقامها المهاجرون من الصين إلى إفريقيا.
ماذا كتبت »المونيتور«؟
أبدت صحيفة »كريستيان ساينس مونيتور« الأميركية اهتماماً كبيراً بكتاب »أفريقيا قارة الصين الثانية«، وقالت إن المؤلف هوارد فرنش يقدم في هذا الكتاب المهم لوحة بالغة الثراء من الوقائع والطرائف تتخللها مقابلات عديدة مع مهاجرين صينيين وأفارقة على السواء، مما يقدم للقارئ صورة منصفة على نحو بارز وجذابة دوماً لما يقوم به الصينيون في إفريقيا، ويلقي الضوء على كيفية توثيق الصين لعلاقاتها بالدول الإفريقية في إطار تعزيزها لتأثيرها الاقتصادي على امتداد العالم.
المؤلف في سطور
البروفيسور هوارد فرنش أستاذ مساعد في الصحافة والإعلام في قسم الدراسات العليا بجامعة كولومبيا الأميركية، حيث أمضى السنوات الست الماضية في تدريس أصول التحرير الصحافي والتصوير الفوتوغرافي. قبلها عمل المؤلف محرراً أقدم في صحيفة »نيويورك تايمز« التي أمضى فيها 23 سنة مراسلاً خارجياً، حيث عمل وأقام في أكثر من 100 بلد على صعيد القارات الخمس في العالم. وترجع معايشته لإفريقيا ومعرفته العميقة بأحوالها إلى فترة السنوات السبع التي أمضاها مقيماً في غرب إفريقيا، وقد حملته هذه الإقامة الطويلة على تأليف كتابه »قارة مطروحة للاستيلاء: المأساة والأمل في إفريقيا«.