حيدر الحسيني
كادت مسألة انخفاض أسعار النفط العالمية هذا الشهر باتجاه 80 دولاراً، إلى أدنى مستوياتها في 5 سنوات، أن تطغى على ما عداها من القضايا الاقتصادية التي تشغل بال المُصدّرين والخبراء والمحللين، الذين أمعنوا النظر في رصد الظاهرة، ومع ذلك جاءت نتائج قراءاتهم متضاربة غالباً، تأسيساً على أحكام مُسبقة أو انطلاقاً من إطار فكري وسياسي ينتمون إليه أو ينتفعون منه.
في خضمّ كمّ هائل من الأحداث المتلاحقة والتحليلات المتعارضة، يجد المتابع نفسه أمام دراسة يصعُب معها الجزم بحقيقة ما يجري على أرض واقع يتّسم بمشهد دولي وإقليمي مضطرب ومُعقّد، يختلط فيه الاقتصادي بالسياسي والعسكري والأمني والديني.
من هذا المنطلق، لعلّ الثابت الوحيد المؤكّد، مبدئياً، هو أن تدهور أسعار النفط سريعاً، وخسارتها 25 في المئة من قيمتها هذا الشهر مقارنة بحزيران الفائت، يلحق أضراراً فورية – أو لاحقة- بمصالح الدول المنتجة، مقابل منافع لا شك في أن المستهلكين يحصدونها، مستفيدين من تراجع فاتورة استيراد مصدر الطاقة الحيوي هذا، خاماً كان أو مشتقات.
كل مُنتِج متضرر والموازنات في خطر
عليه، فإن تكاثر الروايات حتى في الصحف الأميركية والأوروبية- عن أن خفض الأسعار جاء برغبة أميركية وتعاون خليجي، وتحديداً سعودي، بهدف تكثيف الضغوط الاقتصادية على روسيا وإيران، يحتاج إلى تسويغ منطقي لا يجد حتى الآن طريقه إلى الإثبات، وذلك لجملة من الأسباب:
أولاً، أن الأضرار التي تصيب الموازنة السعودية، أكبر مُصدِّر للخام في العالم، من انخفاض أسعار النفط لا تقل عما قد يصيب موازنات غيرها من الدول المعتمدة في معظم إيراداتها على مداخيل مبيعات الخام. وهذا ما يؤكده معهد «اكسفورد» البريطاني لدراسات الطاقة، الذي توقع وقوع المملكة في عجز مالي سنوي بقيمة 56,8 مليار دولار حال هبوط برميل النفط إلى 83 دولاراً للبرميل، بعد فوائض لافتة حققتها على مدى سنوات، فيما تُقدّر تقارير صادرة عن مؤسسات دولية سعر التعادل في موازنة 2014 عند 93 دولاراً. ومع أن المملكة لديها فوائض مالية هائلة تتيح لها تحمّل عجوزات لسنوات، إلا أن برامجها الاجتماعية الضخمة التي تستهلك مئات المليارات ستضيف أعباء كبيرة على المدى المتوسط، إذا واصل النفط هبوطه.
ثانياً، أن إيران، التي تعايشت منذ عقود مع عقوبات اقتصادية مختلفة الأنواع والوسائل، وتصاعدت حدّة تدابير حصارها على خلفية مسألتها النووية لتقوّض حصتها من السوق النفطية، أصبحت أكثر تكيّفاً مع الضغوط وأكثر قدرة على تحمّلها لفترات متوسطة وأحياناً طويلة الأجل، بالرغم من أن غالبية المؤشرات المعيشية في الجمهورية الإسلامية، لا سيما التضخم والبطالة وسعر العملة الوطنية، قد دخلت الدائرة الحمراء، قبل أن تنخرط طهران في المفاوضات مع مجموعة «5+1» التي أفرجت لها عن بضعة مليارات من الدولارات وفقاً لاتفاق مؤقت جرى تمديده مرةً بانتظار التوصل إلى اتفاق نهائي لا يزال المراقبون يستبعدون أن يكون وشيكاً، ربطاً بتأزم المواقف وتضارب المصالح بين الغرب وطهران في أكثر من ملف إقليمي.
ثالثاً، من شأن هبوط أسعار النفط أن يدخل كل دول منظمة «أوبك» والمنتجين من خارجها، في مرحلة من عصر النفقات تقودها مع الوقت إلى اتخاذ إجراءات غير شعبية لحفظ توازنها المالي، الأمر الذي يهدد دينامية اقتصاداتها الوطنية وقدراتها على تحقيق نسب نمو مرتفعة، في ظل الركود العالمي المنعكس مباشرة أو غير مباشرة على غالبية بلدان العالم. علماً أن لـ«أوبك» في سوق الاستهلاك العالمي المُقدّرة بين 84 مليون برميل و90 مليونا يومياً، حصة لا تقل عن الثلث باحتساب إنتاج دولها عند 30,5 مليون برميل يومياً، وهي لا تعتزم حتى الآن عقد اجتماع طارئ لبحث سبل دعم الأسعار، قبل اجتماعها الدوري المقرر في 27 تشرين الثاني المقبل في العاصمة النمسوية، فيينا.
رابعاً، أن دول مجلس التعاون الخليجي، الذي يضم السعودية والإمارات والكويت وقطر وسلطنة عُمان والبحرين، تنتج 17 مليون برميل يومياً، تصدّر منها بين 12 مليون برميل و13 مليونا، وهي تُحصّل 90 في المئة من مداخيل خزائنها من بيع النفط، ولا شك في أنها تتضرر من هبوط النفط.
خامساً، أن روسيا التي تُصدّر أكثر من 7 ملايين برميل يومياً، هي صاحبة أكبر احتياط مؤكد من النفط في أوروبا. ومن شأن هبوط الأسعار أن يضرها، شأنها في ذلك شأن جميع المنتجين، لكن ورقتها الأقوى تبقى الغاز الطبيعي الذي تعتمد عليه غالبية الدول الأوروبية، فهو يغطي نصف حاجات النمسا، والثلث لألمانيا، والربع لإيطاليا، والثلثين لتركيا وفنلندا ودول البلطيق، و15 في المئة لسويسرا وفرنسا، فيما تقل احتياطات الاتحاد الأوروبي مجتمعاً عن 5 في المئة من الاحتياطات الروسية.
أسباب الهبوط متعددة وعامل «الثقة» أساس
منطقياً، لا يمكن الجزم بسبب واحد، تقنياً كان أم سياسياً، لتحليل هبوط سعر النفط. لكن من الموضوعية في مكان القول إن العامل النفسي المُعبَّر عنه بـ«الثقة» يبقى في النهاية عاملاً حاسماً ومؤثراً في اتجاهات المؤشر السعري. كُلّما كان تهديد صادرات النفط وإمداداته أكبر، زاد القلق في السوق العالمية، التي ينحسر فيها القلق كلما كانت الإمدادات أكثر أمناً وديمومة:
ـ المُلاحظ أنه قبل أعوام قليلة، كانت المخاوف العالمية عموماً، وفي الدول المنتجة خصوصاً، تنصبّ على اليوم الذي سينضب فيه النفط مستقبلاً من الآبار البرية والبحرية التقليدية، بوصفه مصدراً أساسياً لا يُمكن الاستغناء عنه في توليد الطاقة اللازمة لعمليات التصنيع والإنتاج والإنارة وغير ذلك من الخدمات الضرورية والكمالية والترفيهية. أما الآن، لم يعُد القلق من المستقبل قائماً بالدرجة نفسها من الهلع السابق، بعدما توالت اكتشافات النفط والغاز بكميات ضخمة، سواء في الدول المنتجة نفسها أو في دول مستهلكة، ومن ذلك، مثلاً، اكتشاف حقل غاز ضخم في بحر الصين الجنوبي يُتوقَّع أن يبلغ إنتاجه اليومي 565 مليون متر مُكعب. ويبدو من هذا التحوّل أن القلق بين المنتجين قد أصبح اليوم من وفرة البترول لا من نضوبه!
ـ تأسيساً على المُعطى السابق، الواضح ألا خوف اليوم على الإمدادات من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالرغم من الاضطرابات السياسية والأمنية والتحولات التاريخية التي تعيشها هذه المنطقة في دول عدة، وتحديداً العراق وليبيا، بينما كان سابقاً مجرد تصعيد المواقف السياسية في الخليج، ومنها التهديد باحتمال إغلاق مضيق هرمز وتعطيل إمداداته، يرفع السعر إلى أكثر من 140 دولاراً في بعض الأحيان، وكأن «الفوضى المنظمة» تشمل بـ«فضائلها» تنظيم إمدادات الطاقة في شتى الظروف.
ـ يُضاف إلى ذلك عامل تقني صرف له علاقة بتراجع الطلب العالمي من الدول الصناعية، والناتج بدوره من انحسار حركة النمو الاقتصادي التي يمر بها العالم اليوم، وهي حالة مستمرة تعانيها معظم بلدان العالم، منذ عام 2008.
ـ ثمة سبب اقتصادي طبيعي متعلق بالمنافسة بين المنتجين التقليديين والمنتجين المُستجدين المعتمدين على مصادر طاقة بديلة، لا سيما النفط الصخري، في حركة قد تُشكّل تحوّلاً في مسارات سوق النفط، ومن أبرز معالمها إنجازات الولايات المتحدة على هذا الصعيد، حيث أوردت صحيفة «التايمز» البريطانية أن أميركا تزاحم السعودية في الإنتاج، لتصبح في الصدارة للمرة الأولى منذ 20 عاماً. إذ أدّت الطفرة الأميركية إلى زيادة الإنتاج من 8 ملايين برميل يومياً عام 2011 إلى 12 مليوناً تقريباً الآن، ويشمل ذلك الغاز الطبيعي المُسال (مثل الإيثان).
ـ أما العامل غير المُثبَت المتمثل بخفض مُفتَعل للأسعار، فإن انعكاساته تتجلى في 3 نتائج أساسية، هي: أولاً، أن البيع بأسعار متدنية يُفضي إلى محاربة الشركات والدول المستثمرة في استخراج النفط الصخري، ويًفقدها بالتالي الجدوى من المُضي قُدُماً في استثماراتها. باعتبار أن تكلفة استخراج البرميل السعودي تُقدّر بين دولار أميركي واحد ودولارين، بينما تراوح التكلفة المجملة، بما فيها النفقات الرأسمالية، بين 4 دولارات و6. تستفيد «أوبك» بأجمعها من الميزة التفاضلية في تكلفة الإنتاج، وربما ـ إذا اقتضى الأمر ـ تتجه لزيادته وإبقاء الأسعار تحت 90 دولاراً، بما يُعادِل متوسط تكلفة البرميل من التقنيات الصخرية، ما يعني تالياً، ولو بعد حين، انتفاء جدوى الاستثمار في الصخري. ثانياً، محاولة الحفاظ على الحصص الإنتاجية المقررة لكل بلد من المنتجين التقليديين. وثالثاً، الضغط سياسياً بأداة اقتصادية على موازنتي روسيا وإيران الخاضعتين لعقوبات دولية، ما قد يجعل التأثير أكبر على قرارات موسكو وطهران في أوكرانيا والملف النووي، ناهيك عن المسائل المرتبطة بالأوضاع المتأزمة في الشرق الأوسط، لا سيما في العراق وسوريا ولبنان.
ترجيح عودة الأسعار إلى مسار الانتعاش
قبل أن يلامس 80 دولاراً الأسبوع الماضي، عاد سعر النفط واختتم التعاملات يوم الجمعة فوق هذا المستوى، ليسجل برميل خام «برنت» القياسي الأوروبي 86,13 دولاراً عند التسوية، مقابل 81,01 دولاراً للخام الأميركي. ومع أن القراءة في مجريات المستقبل قد تكون ضرباً من ضروب التكهّن، فإن الترجيحات يمكن أن تثقّل كفّة انتعاش الأسعار مجدداً على حساب التوقعات بمزيد من التراجع. ويُبنى السيناريو «المتفائل» (بالنسبة للمنتجين طبعاً بوصفه نبأ غير سار للمستهلكين) على مجموعة من الاعتبارات:
أولاً، من شأن اتخاذ منظمة «أوبك» في اجتماعها الشهر المقبل، قراراً محتملاً بخفض سقف الإنتاج، أن يدعم سعر البرميل، لأن هذا القرار يستتبع بالضرورة خفض العرض من الإنتاج المُعتاد، مع أن هذا الاحتمال قد يُقابله قرار «مُضاد» باستخدام «سلاح» المخزونات الأميركية والغربية، إذا ما اعتبرنا أن المصالح المتضاربة قد تُفضي إلى ما يمكن اعتباره «حرب أسعار»، كما يحلو لبعض المراقبين أن يسمّيها.
ثانياً، اشتداد الطلب مع حلول فصل شتاء يُنتَظر، بحسب الأرصاد، أن يكون قاسياً. لا سيما في الدول الباردة، التي تحتاج إلى مشتقات أكبر على مدى أربعة أشهر تقريباً، وهذا ما يُعزّز الطلب ويدعم بدوره سعر البرميل.
ثالثاً، إذا صدقت بعض التوقعات بعودة عجلة الاقتصاد العالمي إلى الدوران، ولو ببطء، فإن ذلك يزيد أيضاً من الطلب على النفط ومشتقاته، خاصة من المؤسسات الصناعية. مثلاً، الصين، وهي ثاني أكبر مستهلك للنفط عالمياً، لطالما اعتُبِرَت توقعات قوة اقتصادها عاملاً رئيسياً في تقدير آفاق الطلب العالمي على مصادر الطاقة. ومن ذلك أن سعر النفط وجد دعماً من تسارع نمو أنشطة الصناعات التحويلية في الصين لأعلى مستوى منذ 3 أشهر، بمجرّد ارتفاع «مؤشر مديري المشتريات» من 50,2 الشهر الماضي إلى 50,4 هذا الشهر، علماً أن النمو الصيني انخفض في الآونة الأخيرة إلى أدنى مستوياته في 6 أعوام.
رابعاً، صحيح أن إمدادات سوق الطاقة لم تتأثر بالاضطرابات الداخلية والأوضاع الجيوسياسية، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط، وهذا ما أبقى الأسعار في نطاقات منخفضة، إلا أن الأحداث الجارية عطّلت اقتصادات دول بحالها وبدّدت جهود التنمية فيها إلى حد كبير وبنسب متفاوتة، مع ما لذلك من تأثير سلبي على مؤشرات النمو الاقتصادي في المنطقة، وانعكاس، ولو غير مباشر، على عجلة النمو العالمي، والطلب على النفط. من نافل القول إن عودة المناطق الساخنة إلى استقرارها، وهو أمر مستبعد على المدى القصير وربما المتوسط، ينعش هذه الدول والإقليم وله بصماته الإيجابية على النمو العالمي، وهي مؤشرات من شأنها أن تُعيد شيئاً من الثقة التي قوّضها عدم الاستقرار،على أن يستتبع ذلك ازدهاراً وحاجة متزايدة لمشتقات النفط.
خامساً، من شبه المؤكد أن سعر النفط قد تأثّر، ولو جزئياً، باستحداث ما يمكن أن نسمّيه اصطلاحاً «سوق طاقة موازية» من قبل المجموعات المسلحة، التي أصبحت تهيمن على أجزاء من ليبيا وعلى نصف العراق وثلث سوريا تقريباً، مع ما تختزنه هذه الجغرافيا الواسعة من ثروات نفطية وغازية. وتذهب تقديرات وزارة الخزانة الأميركية إلى أن تنظيم «الدولة الإسلامية» وحده يجني مليون دولار يومياً من بيع النفط في «السوق السوداء». إن دعم الأسعار يكون، من هذا الجانب، بمكافحة عمليات تهريب النفط بصورة غير شرعية من مناطق الصراعات، وهي عمليات تغطي جزءاً «مجهولاً» من الطلب العالمي، خاصةً أن بيع النفط المهرّب بأسعار تفضيلية حيناً وبخسة أحياناً اُخرى، تحت ضغط الحاجة المالية للجماعات المسلحة وعمولات السماسرة والشاحنين وابتزاز الشارين، تُسفر عن طلب متزايد على النفط «المخفي» غير الشرعي، على حساب الصادرات التقليدية التي يُمكن رصدها وتتبّع حركتها عبر الأقمار الاصطناعية.
أخيراً، مهما اختلفت وتعددت العوامل المؤثرة في اتجاهات سوق النفط، يبقى من الضروري أن تثبت الدول العربية المُنتجة الحضور العالمي الذي تستحقه، عبر تضامنها، ومن خلال التعاون، ما أمكن، مع الأعضاء الفاعلين في منظمة «أوبك». لكن يبدو أن الأمل بتحقّق هذا النوع من الحِراك الفاعل لا يعدو كونه أمنيةً، و«ما نيل المطالب بالتمنّي، ولكن تؤخذ الدنيا غلابا»!