ما يجري في الشمال منذ أيام لم يشكل مفاجأة لأحد على الإطلاق. وكأنما سعى البعض منذ أعوام الى إبقاء عاصمة الشمال جرحاً نازفاً وملتهباً لاستعمالها ورقة عندما تدعو الحاجة.
من محطات الاقتتال على جبهات باب التبانة- جبل محسن طوال أكثر من 3 سنوات، الى تفجير الوضع الطرابلسي من الداخل سيناريو متكامل هدف الى وضع طرابلس في مواجهة الجيش.
السيناريو ليس جديداً. في أواخر العام 1999 ناشد نواب المنية- الضنية المسؤولين الأمنيين اللبنانيين والسوريين التنبه الى تدريبات عسكرية لإسلاميين تجري في جرود الضنية. سمع النواب تطمينات بأن الأمور معروفة وتحت السيطرة… الى أن كان الانفجار ليلة رأس السنة 1999-2000 وذهب ضحيته عدد من شهداء الجيش اللبناني.
ثمة ما يشي بأن الأمور مشابهة اليوم في الوضع الشمالي ككل، وخصوصا في طرابلس. ولا بد من الاعتراف بأن المعارك التي دارت وتدور إنما سببها أولاً وأخيراً الإخفاق الأمني في منع وصول الأمور الى ما وصلت إليه.
يروي وزير سابق بأنه طرح على مجلس الوزراء تغيير جميع القادة الأمنيين في طرابلس لكنه جوبه بخطوط حمر حول بعض الأسماء. وها إن أزمات طرابلس تتوالد وتتكاثر في ظل عجز في العمل الأمني تدفع ثمنه وحدات الجيش المقاتلة عندما يُزجّ بها في معارك كان يجب الا تحصل أبداً!
يروي مطلعون أن قادة أمنيين كانوا يفطرون بشكل أسبوعي مع مجموعات من الذين يقاتلون الجيش اليوم. الخلاصة أنه كان بالإمكان توقيفهم بكل سهولة. والسؤال هو لماذا لم يتم توقيفهم واتخاذ كل الإجراءات التي تحول دون تفاقم الأوضاع ووصولها الى ما وصلت إليه؟ لماذا على سبيل المثال حصلت تسوية مع المطلوبين أسامة منصور وشادي المولوي قبل حوالى الأسبوعين حين تم إخراجهما من أحد مساجد التبانة؟
الأجوبة قد تكون متعددة، والأسوأ حين نسمع مقولة “لا حل عسكريا ولا بد من تسوية”!
بصراحة شبعنا تسويات على حساب الوطن. شبعنا تسويات على حساب كرامة الدولة وسيادة القانون. التسوية مع خارجين عن القانون هي بحد ذاتها جريمة. وحده الحسم العسكري والتأكيد أن الدولة بمؤسساتها العسكرية والأمنية قادرة على الضرب بيد من حديد هو ما يفرض هيبة للدولة ويمنع تجاوز القانون والاعتداء على المؤسسات. ووحدها الدولة القوية والعادلة والمتوازنة قادرة على فرض الأمن ولو بالقوة، لأنها تفرضه على الجميع من دون استثناء، فيصح المثل الشهير “ظلم في السوية عدل في الرعية”.
فرض الأمن وتطبيق القانون لا يمكن أن يتم بالتسويات أو استنسابيا، بل على الجميع، بالهيبة دائما وبالقوة حين يلزم الأمر ومن دون تردد.
كل ما سبق لا يعني على الإطلاق أن أي اعتداء على الجيش يمكن أن يمر مرور الكرام. فالشعور بالغبن لا يبرّر الإجرام والقتل والترويع وتشكيل عصابات للاعتداء على الجيش. واليوم من يقاتلون الجيش شمالاً باتوا يشكلون مجموعة عصابات يجب التعامل معها على هذا الأساس وبالحزم المطلوب من دون أي تهاون، لأن أي تهاون أو تخاذل سيؤدي الى انهيار الهيكل على رؤوس الجميع.
لكن العبرة تبقى في التمكن من معالجات كل الحالات الشاذة بالوسائل الأمنية قبل اللجوء الى الخيارات العسكرية. ويقيناً لو أن بعض الأجهزة الأمنية في الشمال قامت بواجباتها لما كنا نعزي اليوم بشهداء الجيش اللبناني الأبطال وشهداء مدنيين يسقطون في معارك كنا في غنى عنها. فهل تتعظ الحكومة وتقوم بواجباتها في محاسبة المقصرين أم أن تجربة 5 أيار والخطوط الحمر لا تزال ماثلة في أذهان السياسيين؟!