ما زال موسم قطاف الزيتون في بلدات وقرى الجنوب يحافظ على رونقه وقيمته العائلية والإجتماعية، فتجتمع الأسرة كل عام في قطاف الموسم، حيث تكون قريبة من بعضها أكثر في هذا الموسم، إذ يتبادل أفرادها أطراف الحديث، ويتناولون الطعام والشراب تحت ظلال الشجرة المباركة…
وتعجّ حقول الزيتون بالعائلات من الصغار قبل الكبار، تساعد بعضها البعض على العمل في قطاف الموسم… فهذا التراث الشعبي الذي يتنقّل من جيل إلى آخر، وإنْ خفَّ وهجه عاماً تلو عام بفعل هموم الحياة، إلا أنّ المواطن اللبناني لديه عشقه وحبّه للأرض ولحبّة الزيتون وللحفاظ على تراثه…
وتمضي الكثير من العائلات أسابيع عديدة في قطاف موسم الزيتون، بعدما سرّعت «شتوة» هذا العام من وتيرة القطاف، خاصة أنّ معظم المزارعين انتظروا أمطار تشرين لتجعل «حبيبات» الزيتون أكثر اكتنازاً وتزيدها حجماً وتُغنيها زيتاً… لكن هذا العام تفاوت الإنتاج بين بلدة وأخرى، خاصة أنّ الموسم خفيف جداً نسبة للعام الماضي، لأنّ الإنتاج عادة «عام وفير وعام ضعيف»، إضافة إلى قلّة الأمطار التي تساقطت في العام الماضي..
«لـواء صيدا والجنوب» جال في بلدات وقرى جنوبية وواكب المواطنين خلال قطافهم للزيتون المبارك، واستمع إلى آرائهم في هذا الموسم ومشاكلهم…
قطاف.. ولقاء
بدأ موسم قطاف الزيتون في البلدات والقرى الجنوبية خجولاً هذا العام، حيث تراجعت نسبة الإنتاج مقارنة بالمواسم الماضية، ما أدى إلى تكبّد أكثر العائلات والمزارعين الذين يعتمدون على موسم الزيتون، خسائر مادية فاقت قدرتهم على تحمّلها.
{ ويؤكد «أبو علي» شلهوب من بلدة كفركلا (70 عاماً) «أنّ البلدة زراعية في الأساس، واعتمادها على موارد الرزق من الزراعة والزيتون، إلا أنّ موسم الزيتون هذا العام تراجع بإنتاجه عن العام الفائت، فأنا والعائلة منذ الفجر نذهب إلى القطاف قبل حرقة الشمس القاسية، لكن الإنتاج هذا العام يكاد يكفي للتموين العائلي فقط، لذلك تتكاتف العائلات حتى لا تتكبّد أجرة العمّال، لأنّ الوضع الاقتصادي صعب، ونحن في لبنان لا نأكل لقمة العيش إلا مغمسّة بالتعب».
وبابتسامة على وجهه يقول: «أشعر بسعادة وأنا أقطف الزيتون مع عائلتي ونجتمع ونتبادل الأحاديث. هذه اللقاءات أصبحت قليلة في هذا الزمن بسبب مصاعب الحياة وانشغال كل فرد بتأمين قوت يومه وتربية أولاده، لكن في موسم الزيتون نجتمع كأنّنا في عيد».
{ في حقل آخر وبلدة أخرى، تقف «أم محمد» مغنية من طيردبا (60 عاماً) على السلم الخشبي، وهي تقطف حبّات الزيتون وتدندن «عتابا»، وهي في قمة السعادة تقول: «أنتظر موسم قطاف الزيتون من عام لآخر بفارغ الصبر، فأشعر بحنين وشوق لا يوصفان، لأن كل شجرة زيتون لها حكاية وذكريات، فهي قطعة منّي. نحن منذ الصغر نأتي ونجتمع تحت الزيتونة، ونتبادل الأحاديث والأسرار مع بعضنا البعض، وهكذا علّمت أولادي أنْ يعشقوا قطاف الزيتون لأنّها شجرة مباركة وتعطينا الرزق وخاصة في بلد قلَّ فيه الرزق».
أسلوب.. وعصر
{ يعتمد الكثير من المزارعين الأسلوب القديم في قطاف الزيتون، فيتسلّقون أشجار الزيتون لقطاف الموسم، إنْ كان باليد أو باستعمال القضيب لهز الشجرة، ويؤكد إيلي نهرا من مرجعيون، الذي كان يتسلّق شجرة الزيتون، معتمداً الطريقة البدائية أنّها «بركة وقطافها بهذه الطريقة هو الأصح، وهكذا تربينا وربّينا أولادنا، فشجرة الزيتون فيها نكهة خاصة، ونحن متعلّقون بأرضنا كثيراً، وتعلّقنا بشجرة الزيتون هو تمسّكنا بالخير والبركة، فالله سبحانه وتعالى أرسل إلينا هذه الشجرة وفيها حكمة خاصة… وقد أصبح الكثير من الأشخاص يقومون باقتلاع أشجار الزيتون المعمِّرة من مكانها، ونقلها إلى حدائق القصور لزرعها على مداخلها كي تجلب لهم الرزق والبركة».
وهو ينقّي حبّات الزيتون المقطوفة قال: «عندنا ثلاثة أنواع من أشجار الزيتون.. البلدي وهو أطيب زيتون، والأسود و(الطلياني)، وعند عملية الفرز نقسّم الزيتون إلى ثلاث فئات، فالحبة الكبيرة الناضجة للمونة، والفئة الثانية لاستخراج الزيت، وما تبقى من زيتون نقوم بصناعة الصابون البلدي منه».
ومن القطاف إلى الدرس، تمر حبّات الزيتون، حيث انتشرت معاصر الزيت الأوتوماتيكية في الجنوب، وتقوم باستقبال جنى ثمار الزيتون بنوعيه الأخضر والأسود، حيث تعمل ليلاً ونهاراً لتلبية المواطنين.
ويقول «أبو خليل» صالح، الذي قصد المعصرة، بأنّ «نسبة كمية الزيتون هذا العام شحيحة، وأجور النقل وعمّال القطاف والمعاصر مرتفعة كثيراً، وتكلفة عصر صفيحة الزيت يبلغ حوالى 20 ألف ليرة، وأجرة اليد العاملة في قطف الموسم حوالى 30 ألف ليرة، أما سعر مبيع صفيحة الزيت ففي تحسّن، حيث تخطّى الـ 200 ألف ليرة لبنانية، وقد يتجاوز الـ 225 ألفاً لصفيحة الزيت، بحسب نوعيته وجودته، وكيلو الزيتون بـ 15 ألف ليرة حسب الأرض والحبة، وتحتاج صفيحة الزيت إلى عصر بين 80 و90 كيلوغراماً من الزيتون».